بين المطالبات باستثماره لصالح المودعين، والتحفظات على المساس به، تبقى الكرة في ملعب السلطة التشريعية. فهل يُتَّخذ القرار في ضوء خطة اقتصادية واضحة، أم يبقى الذهب ثروة مجمدة في انتظار مستقبل مجهول؟
كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:
مع تعيين كريم سعيد حاكمًا جديدًا لمصرف لبنان، تعود قضية استرداد الودائع إلى الواجهة كإحدى الملفات الاقتصادية الأكثر إلحاحًا. وبينما تُطرح عدة حلول لإعادة جزء من أموال المودعين، يبرز خيار استخدام احتياطي الذهب، الذي تُقدَّر قيمته بنحو 28 مليار دولار، كأحد المقترحات المثيرة للجدل.
لكن هذا الطرح يصطدم برفض قاطع من قبل جهات تخشى المساس بثروة لبنان الذهبية، معتبرة أنّ الذهب هو خط الدفاع الأخير وسط انعدام الثقة بالدولة ومؤسساتها. في المقابل، يطرح البعض تساؤلًا مشروعًا: إذا لم يكن الوضع الاقتصادي الحالي كافيًا لاستخدام الذهب، فمتى يكون “اليوم الأسود” الذي يستدعي اللجوء إليه؟
أكد الخبير في المخاطر المصرفية، الدكتور محمد فحيلي، أنّ الذهب بالنسبة للبنان يشبه المقولة الشهيرة: “خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود”، مشيرًا إلى أنّ البلاد تمر اليوم بأحلك أيامها، حيث يعيش اللبنانيون أزمة غير مسبوقة.
وفي حديثه لـ”هنا لبنان” عن إمكانية الاستفادة من احتياطي الذهب، شدد فحيلي على أهمية وضع ضوابط واضحة لتنظيم كيفية استخدامه، معتبرًا أنّ تسييل جزء منه لدعم الأنشطة الاقتصادية هو خيار يجب أخذه في الاعتبار، ولكن ليس فقط لتسديد أموال المودعين أو الوفاء بالتزامات الدولة، بل لتحفيز الاقتصاد ككل. وأوضح أنّ تحريك عجلة الاقتصاد يعزز الإنتاجية، ويخفف من البطالة، ويحدّ من معدلات الفقر التي تتفاقم عامًا بعد عام.
وأضاف فحيلي أنّ أي خطوة لتسييل الذهب يجب أن تكون ضمن إطار قانوني صارم يفرض آلية واضحة لإعادة تكوين الكمية المباعة لاحقًا، مشددًا على ضرورة إرفاق هذا القانون بخطة اقتصادية شاملة تحدد كيفية استخدام العائدات الناتجة عن التسييل لضمان استثمارها بشكل مستدام.
أما في ما يتعلق بخيار رهن الذهب، فقد عبّر فحيلي عن معارضته الشديدة لهذه الفكرة، محذرًا من المخاطر المرتبطة بها. وأوضح أنّ رهن الذهب لصندوق استثماري أو لشركة أجنبية قد يعرضه للاستعمال من قبل الجهة الراهنة، مما يهدد بإمكانية فقدانه في حال تعرضت تلك الجهة لخسائر. ولفت إلى أنّ استرداد الذهب المرهون قد يصبح معقدًا ومكلفًا قانونيًا وقضائيًا، ما قد يفاقم الأزمات التي يعاني منها لبنان.
وفي الختام، جدد فحيلي تأكيده على أنّ أي تسييل للذهب يجب أن يتم وفق قانون واضح يحدد أطر الاستخدام ويشترط إعادة تكوين الاحتياطي خلال فترة زمنية محددة، وذلك لضمان عدم استنزاف هذا المورد الاستراتيجي دون رؤية اقتصادية مستدامة.
بدوره، اعتبر الخبير الاقتصادي والمالي البروفيسور مروان بركات، أنّ تسييل جزء من احتياطي الذهب قد يكون من الخيارات الجدية المطروحة للمساهمة في سدّ الفجوة المالية وإعادة جزء من الودائع للمودعين.
وأشار بركات إلى أنّ لبنان يسجّل اليوم أعلى نسبة احتياطي ذهب إلى الناتج المحلي الإجمالي عالميًا، إذ يُقدَّر احتياطيه بنحو 28 مليار دولار (9.2 مليون أونصة وفق السعر الحالي البالغ 3032 دولارًا للأونصة)، بينما يُقدَّر الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 بحوالي28.3 مليار دولار، ما يعادل نسبة تقارب 100%.
وأوضح بركات أنّ تسييل ثلث احتياطي الذهب قد يشكّل رافعة مالية تساعد في تقليص الفجوة المالية، مع الحفاظ على موقع لبنان في صدارة الدول من حيث نسبة احتياطي الذهب إلى الناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، يبقى النقاش مفتوحًا حول مدى فعالية هذا الخيار وأثره على الاستقرار الاقتصادي في المدى الطويل.
من جهة أخرى، اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور باتريك مارديني أنّ هناك أربع استراتيجيات يمكن اعتمادها في ما يخصّ احتياطي الذهب في لبنان.
الخيار الأول، وهو الإبقاء على الذهب كاحتياطي استراتيجي، حيث تزداد قيمته بمرور الوقت، وهو ما كان نهج لبنان التقليدي في العقود الماضية، وقد أثبتت هذه الاستراتيجية جدواها الاقتصادية، إذ حقق لبنان مليارات الدولارات من الأرباح نتيجة ارتفاع أسعار الذهب عالميًا.
أما الخيار الثاني، فيتمثل في بيع الذهب، إلا أنّ مارديني يعارض هذا الطرح، معتبرًا أنّ غياب الشفافية ووجود الفساد والهدر في الدولة اللبنانية يجعل هذا الخيار محفوفًا بالمخاطر، إذ لا توجد ضمانات واضحة حول كيفية استخدام الأموال الناتجة عن البيع. كما أنّ الذهب اليوم يشكّل عامل استقرار نفسي واقتصادي لدعم قيمة الليرة اللبنانية، وبالتالي فإنّ بيعه قد يؤدي إلى تداعيات سلبية على سعر الصرف.
وبالنسبة إلى الخيار الثالث، وهو رهن الذهب، يرى مارديني أنّ هذا الخيار ينطوي على مخاطر كبيرة، إذ ستُستهلك الأموال الناتجة عن الرهن دون أي خطة واضحة لإعادة تكوين الاحتياطي، مما يؤدي في النهاية إلى خسارة الذهب نفسه.
أما الخيار الرابع، فهو تأجير الذهب، سواء كدين أو بموجب عقود إيجارية. غير أنّ هذا الطرح يحمل في طياته مخاطر كبيرة، أبرزها احتمال تعرّض الجهة المستأجرة للإفلاس، مما قد يؤدي إلى خسارة الذهب، فضلًا عن تأثيره السلبي على سمعة ومصداقية مصرف لبنان في الأسواق المالية العالمية. وفي ظل حاجة لبنان إلى إعادة بناء سمعته الاقتصادية، فإنّ هذا الخيار غير مناسب في الوقت الحالي.
بناءً على هذه المعطيات، يؤكد مارديني أنّ الخيار الأفضل هو الإبقاء على الذهب كاحتياطي استراتيجي واستثماره بشكل غير مباشر عبر الاستفادة من ارتفاع قيمته مع مرور الوقت.
من الناحية القانونية، توضح المحامية الدكتورة جوديت التيني أنّ القانون الصادر في 24 أيلول 1986، خلال عهد الرئيس أمين الجميّل، يحظر بشكل صريح التصرف بالموجودات الذهبية لمصرف لبنان أو لحسابه، بأي شكل من الأشكال، سواء بالبيع أو بأي طريقة أخرى، مباشرة كانت أو غير مباشرة، إلا بموجب قانون صادر عن مجلس النواب.
وتؤكد التيني أنّ إسناد هذا القرار إلى مجلس النواب، باعتباره ممثلًا للشعب، يعد أمرًا ضروريًا نظرًا لحساسية الموضوع وأهميته. كما تشدد على أن مصطلح “التصرف” في القانون واسع النطاق، ويشمل مختلف العمليات المالية، مما يعني أنه لا يمكن الادعاء بأنّ القانون رقم 42/1986 لم يتطرق إلى عمليات مثل المبادلة، أو الرهن، أو منح حق الخيار، أو حتى نقل الذهب إلى خارج البلاد. فبحسب التيني، فإنّ نية المشرّع كانت واضحة في شمولها لهذه العمليات، ما يستوجب موافقة مجلس النواب على أي إجراء يطال الذهب.
بين المطالبات باستثماره لصالح المودعين، والتحفظات على المساس به، تبقى الكرة في ملعب السلطة التشريعية. فهل يُتَّخذ القرار في ضوء خطة اقتصادية واضحة، أم يبقى الذهب ثروة مجمدة في انتظار مستقبل مجهول؟
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع هنا لبنان