وصل لبنان إلى مرحلة ينطبق عليها قول أحد الظرفاء من السياسيين، “كيف ما ضربت إيدك بيطلعلك مخالفة”. القانون وُضع جانباً، والحُكم تُرك لحسابات معقدة، يتداخل فيها الطارئ مع المصالح الشخصية والمنافع السياسية والحسابات المناطقية… وغيرها الكثير من الاعتبارات التي لا تدنو من القوانين لا من قريب أو بعيد. وكما ينسحب هذا الواقع على الكثير من التلزيمات في المرافئ العامة، كذلك ينطبق “حفراً وتنزيلاً” على ملف امتياز شركة كهرباء زحلة.
من دون العودة كثيراً إلى الوراء، فإنّ الامتياز الذي يجايل ولادة الجمهورية اللبنانية، انتهت صلاحيته في العام 2018. ولكنه بقي مستمراً بقوّة الأمر الواقع. عاند هذا “الختيار” خلال سنواته الطوال انضواءه تحت عباءة قانون إلغاء الامتيازات، وحصرية إنتاج الطاقة ونقلها وتوزيعها بمؤسسة كهرباء لبنان. وأخذ “بعصا” تأمين منفعة المواطنين “الغليظة”، حق انتاج الكهرباء من المولّدات الخاصة، بعدما عجزت الدولة عن تأمينها.
استرداد الامتياز
آخر محطّات تمديد المهل منذ العام 2018، كان يجب أن تنتهي مطلع تشرين الثاني 2023. وكان يفترض بهذه المرحلة وضع الامتياز في عهدة مؤسسة كهرباء لبنان لإدارته بشكل مباشر. وهذا ما لم يحصل رغم مرور شهرين على انتهاء مهلة التمديد. وذلك برغم تحديد كتاب وزير الطاقة أرثيور نظريان الموجّه إلى شركة كهرباء زحلة في العام 2016 تحت الرقم 467/2016 تفاصيل استرداد الامتياز. فبناءً على أحكام دفتر شروط امتياز كهرباء زحلة، ولا سيما المادة 30 منه، يجاز للحكومة في نهاية المدة المحدّدة للامتياز بأن “تحلّ محل صاحب الامتياز، وأن تأخذ جميع مباني وإنشاءات التوزيع ومتعلّقاتهما، وأن تسلّم إليها المعامل والمحطّات، ومحطّات التحويل والمعدّات الكهربائية والميكانيكية والتشعبات المختصّة بالامتياز مجاناً، حرّة مطلقة غير مقيدة بحق دين ممتاز أو رهن أو غيره من الحقوق العينية (…)”. وعليه، ذكّر الكتاب بـ “انتهاء مدة امتياز زحلة في 31 كانون الأول 2018، مطالباً الشركة باتخاذ جميع التدابير والإجراءات اللازمة لتسليم الإنشاءات ومعدّات التوزيع بحالة صالحة وتسهيل عملية الاستلام”.
استنفاد جميع المهل
من بعد الاستفادة من تمديد المهل، عدّلت هيئة الاستشارات والتشريع في تشرين الثاني 2022 المهل القانونية لعقد تشغيل كهرباء زحلة. فبدلاً من انتهائه آخر العام 2022، عُدّل إلى 8 آذار 2023 وأتى، بحسب المعلومات، المتداولة “إفساحاً في المجال لتنظيم دفتر شروط لإطلاق مناقصة جديدة للكهرباء في قضاء زحلة”. ومع الوصول إلى التاريخ المفصلي عادت الهيئة لتقرّر الإبقاء مؤقتاً على العقد الحالي ضمن الشروط نفسها، تأميناً لاستمرار المرفق العام. وذلك في ضوء عدم إتمام إجراءات الاسترداد، وتقصير لجنة الامتياز التي شكّلها وزير الطاقة من القيام بعملها واسترداد الامتياز.
خدمات كهربائية
تفرض القوانين أن تقوم المديرية العامّة للاستثمار في وزارة الطاقة بتسلّم الامتياز، لتعود وتسلّمه بدورها إلى مؤسسة كهرباء لبنان التي ستديره. وكلّ ما يحكى عن إطلاق مناقصة جديدة لإدارة الامتياز هو “مخالف للقانون”، بحسب غسان بيضون محلّل سياسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في المعهد اللبناني لدراسات السوق – LIMS. هو يتعارض مع مصالح المواطنين الذين يتحمّلون تعرفة مرتفعة، أثرت البعض لممارستهم نشاط غير قانوني، ومتفلّت من أيّة رقابة في تحديد التعرفة واحتسابها. وأهمّ من هذا كلّه، بحسب بيضون، أنّه “حين يوجد القانون تلغى إمكانية الاستنساب في التفسير أو حتّى التأويل”. مع التشديد على أنّه لا يمكن الكهرباء شراء المولّدات من الامتياز لسببين:
الأول أنّ هذه المولّدات تملكها شركة كهرباء زحلة من خارج الامتياز، ولا تدخل في أصول الامتياز ولا حتّى مستأجرة لمصلحته.
الثاني، لا يمكن مؤسسة الكهرباء تأمين الإنتاج من المولّدات.
إعادة التلزيم غير قانونية
“إذاً ما دامت مؤسسة كهرباء لبنان موجودة، فليس مسموحاً لأحد الاستثمار في إنتاج الكهرباء أو نقلها أو توزيعها إلّا بموجب قانون”، يقول بيضون. مع التشديد على وجوب عدم تخصيص منطقة بعينها بقانون عنوة عن بقية المناطق. وعليه، فإنّ وضع دفتر شروط وإطلاق مناقصة بحجّة “تقديم خدمات كهربائية هو تحايل على القانون، يقصد منه السماح بإنتاج الكهرباء”، من وجهة نظر بيضون، لأنّ انتاج الكهرباء حكر على “الكهرباء”، ولا يمكنها أن تطلب من أيّة جهة أن تنتج الكهرباء لمصلحتها. كما لا يجوز لـ”الكهرباء” أن توزّع الطاقة على المشتركين إلّا من معاملها، أو من معامل تمتلكها مؤسسات عامة، أو من الجهات التي تملك امتيازاً.
لا مركزية الكهرباء
الحلّ العادل لا يمكن حصوله خلافاً للقانون، إنّما بالاستفادة من الشراكة بين البلديات بوصفها سلطات لا مركزية مع القطاع الخاص من أجل انتاج الكهرباء. وإذا كان من المستبعد إلى اليوم استخدام شبكة الدولة بسبب عدم وضع المراسيم التطبيقية لقانون الطاقة المتجددة والموزعة وربطه بإنشاء الهيئة الناظمة المستعصية عن التشكيل، “فمن الممكن لهذه الشراكة أن تستخدم في المراحل الأولى شبكة المولّدات الخاصة”، يقول بيضون. ولعل تجربة بلدية تولا في انتاج الطاقة المتجددة وتوزيعها بالتعاون مع البلدية بتكلفة متوسطها سبعة سنتات للكيلوواط ساعة خير مثال على نجاح هذه التجربة، وإمكان تعميمها على البلديات منفردة أو حتّى على اتحاد البلديات. وهو ما يوفّر تغذية متواصلة بالتيار الكهربائي وبكلفة تقلّ كثيراً عن كلفة المولّدات الخاصّة أو حتّى تعرفة الكهرباء الجديدة. وما يساعد على ذلك هو السماح بقانون موازنة 2024 للبلديات تأجير عقاراتها. فأسس ذلك لأوسع تعاون مع القطاع الخاص والتعاقد مع المنتجين لتوزيع الكهرباء.
بين تجاوز القوانين وفوضى التشريعات وتقادم الشبكة والمعامل، يبقى إكسير حياة الكهرباء هو الشراكة مع القطاع الخاص، وفتح القطاع للمنافسة على تقديم أفضل خدمة بأقلّ التكاليف.