عندما ترك النازحون بيوتهم هرباً من مخاطر الحرب على حياتهم وأملاكهم لم يتصوروا أن يصيبهم من مولدات الأحياء ما كان ليحصل بفعل العدوان من حرائق تزهق أرواحهم، وتلتهم سياراتهم وغيرها مما جهدوا لتخليصه من مقتنياتهم تحت الخطر: وما أن اهتدى المحظيون منهم إلى شقق متواضعة يستأجرونها بمبالغ تفوق قدراتهم ويدفعونها سلفاً عن عدة شهور تحت ضغط الحاجة واستغلال المالكين، حتى عاد همّ تأمين الكهرباء والمياه والإنترنت وعبء فواتيرها الإضافي يتصدّر همومهم.
ضمن هذا المشهد المثقل بدواعي القلق اندلع حريق في منطقة الحمرا – خلف مطعم بربر نتيجة احتكاك كهربائي في أحد المولدات، وتمدّد إلى خزانات المحروقات ونتجت عنه أضرار جسيمة، وتمكن الدفاع المدني من السيطرة عليه، وانتشرت عناصره في المبنى المحترق خوفاً من تمدد النيران وحصول حالات اختناق من الدخان الكثيف.
أعاد هذا الحريق تسليط الضوء على مخاطر المولدات المنتشرة بين الأحياء على الأرصفة، وقرب مداخل الأبنية أو تحت شرفاتها وعلى أطراف الساحات العامة ومواقف السيارات، وكذلك على الحاجة للعمل على قمع احتكار العصابات، التي جاءت لتملأ الفراغ الناتج عن فشل الدولة ممثلة بوزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان في معالجة أزمة الكهرباء وتأمين سلعة الكهرباء الحيوية لكل بيت ونشاط اقتصادي، فاستمرت المولدات في استغلال ضعف الدولة وغياب رقابة حماية المستهلك واكتفاء وزارة الطاقة المعنية بالوصاية على قطاع الكهرباء بإصدار التسعيرة التوجيهية الشهرية من باب رفع العتب، ان لم نقل التغطية وإضفاء المشروعية على وجودها وممارساتها خارج أية قيود وضوابط.
لقد أعاد «حريق الحمرا» طرح السؤال حول الجهة صاحبة الصلاحية المسؤولة عن ممارسة الرقابة على نشاط المولدات وحماية حياة وأملاك المواطنين من مخاطرها واحتكارها واستغلالها لأزمة النزوح والاستثمار فيه دون رحمة؟
للإجابة على هذه التساؤلات لا بد من العودة إلى النصوص القانونية التي ترعى الصلاحيات والمسؤوليات في هذا المجال.
في القانون، يقع ضمن صلاحيات المجلس البلدي كل عمل له طابع المنفعة العامة ضمن النطاق البلدي، ومنها نشاط مولدات الكهرباء التي باتت واقعاً مفروضاً يشمل جميع المدن والقرى والأحياء وتشمل صلاحيات مصلحة المؤسسات المصنفة في بلدية بيروت كل ما له علاقة بنشاط يمكن أن نتج عنه مخاطر ومحاذير وكل ما يتعلق بالسلامة العامة والحماية من المخاطر والحريق وتلوث الهواء والشروط الصحيةً. وقد أخضعت المؤسسات المصنفة استثمار المولدات لموجب الترخيص من بلدية بيروت: ولدى هذه المصلحة قسم للمراقبة يتولى تنفيذ قرارات محافظ بيروت بالاستعانة بالحرس البلدي عند اللزوم: ونظراً لطبيعة المخاطر التي يمكن أن تنتج عن تشغيل المولدات، فقد وضعت لها معايير يجب مراعاته وشروط لضبط النشاط القائم تجنّباً لأي ضرر يمكن أن ينتج عنه على الصحة والبيئة وأملاك المواطنين وحياتهم.
نصائح وإرشادات وشروط الاستخدام الصحيح للمولدات:
– إجراء صيانة دورية للمولد وتأمين نظافته من أثر الزيوت والوقود عليها؛ – وعدم ترك الزيوت المنسكبة على أرضية أو قاعدة المولد؛ – عدم استخدام التوصيلات الرديئة وغير المناسبة؛ وعدم تزويد المولد بالمحروقات أثناء تشغيله؛ ووضع يافطة تحذر من مخاطر الكهرباء؛ والاحتفاظ بجهاز إطفاء يدوي بالقرب من المولد يسهل الوصول إليه عند اللزوم؛ والحرص على أن يكون المولد بعيداً عن متناول الأطفال والمارّة؛
أسباب انفجار المولدات:
سوء استخدام المولد وتسرّب الوقود من خراطيم التغذية وحصول التماس الكهربائي وتراكم الزيوت والوقود والأتربة على جسم المولد.
من مهام مصلحة المؤسسات المصنفة تطبيق القرارات التي تصدر في هذا الإطار؛ وحيث أن الدولة وضعت يدها على موضوع المولدات خلال العام ٢٠١١، وذلك بموجب قرار صدر عن مجلس الوزراء تم بموجبه تكليف وزارة الطاقة والمياه ووزارة الاقتصاد والتجارة والبلديات بوضع آلية لضبط التعرفة. وعلى هذا الأساس باشرت وزارة الطاقة والمياه بوضع تسعيرة توجيهية دون إلزامها بتركيب العدادات؛ وخلال العام ٢٠١٨ صدرت تعرفة للمقطوعية بعد إلزام أصحاب المولدات بتركيب العدادات والتقيد بالتعرفة الشهرية التي تصدر عن وزارة الطاقة. ومع تفاقم الأزمة اعتباراً من العام ٢٠٢١ بات لبلدية بيروت ومحافظ المدينة تدخل رقابي مباشر على نشاط استثمار المولدات؛ واعتباراً من آذار ٢٠٢١، صدرت البلاغات والمذكرات والتعاميم اللازمة المفترض أن يتقيّد بها أصحاب المولدات بما فيه ما يصدر عن وزارة الاقتصاد بالنسبة لتركيب العدادات وعن وزارة الطاقة بالنسبة للتسعيرة.
في النصوص القانونية الأخرى التي تنظم الأنشطة وتحدد المسؤوليات هناك:
١- المرسوم رقم ٢١/ ل/ تاريخ ٢٢/٧/١٩٣٢ أًوجب على كل شخص يعتزم فتح محل خطر أو مضر بالصحة أو مزعج أن يطلب الترخيص وتقديم تصريح لرئيس بلدية المنطقة الكائن فيها المحل أو إلى القائمقام حيث لا توجد بلدية، وتقديم مصور يبيّن الجهات التي تحيط بالمؤسسة أقله على بُعد ٢٥٠ متراً.
٢- المرسوم الاشتراعي رقم ٦٦ تاريخ ١٩/٧/١٩٤٣، الذي يركّز على حماية الجوار، ويوجب على رؤساء ومديري ووكلاء المؤسسات عدم الاستثمار بدون ترخيص والالتزام بالأحكام المتعلقة بحماية الجواز والصحة العامة ويعرضهم للمحاكمة والغرامة والعقوبات.
وهناك قواعد المسؤولية وهي نوعان: مسؤولية مدنية تقتضي التعويض المادي عن الأضرار بالأملاك، ومسؤولية جزائية تنتج عن التسبب بالموت. وهناك أيضاً المسؤولية القانونية عن فعل الجوامد، التي تقع على حارسها وتلزمه بالتعويض عن الأضرار الواقعة حتى في الوقت الذي لا تكون فيه تحت إدارته أو مراقبته الفعلية، إلّا إذا كان ذلك نتيجة خطأ من المتضرر.
في بلد يعوم على بحر من الفوضى في غياب مختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها ومرافقها، وتخلّفها عن القيام بواجباتها، لا نستغرب تكرار مثل هذه الكوارث والجرائم، وتبقى الآمال معلقة على البلديات في التعويض عن غيرها من إدارات الدولة وهيئاتها، لا سيما وأنها مرشحة للعب دور أساسي في مختلف مجالات حياة ساكنيها، وإيجاد آليات تعاون شفافة ومنة مع القطاع الخاص للقيام بدورها المرتقب في مجال التنمية والإنماء المتوازن في إطار اللامركزية الموسًعة، بحيث يتم تفعيل دورها وصلاحياتها كقوة محركة للنهوض والنمو، وتعزيزه بنصوص قانونية صريحة توليها الصلاحيات القانونية اللازمة لتمكينها من توفير الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء ونظافة وبيئة سليمة، وغيرها مما يندرج ضمن أبسط حقوق المواطن.
وعلى أمل الخروج من الحرب إلى مرحلة إعادة الإعمار بالتوازي مع إعادة بناء الدولة واستعادة دورها الرعائي على أسس سليمة ترتكز إلى قواعد النزاهة والكفاءة والثواب والعقاب، في إطار رقابة جدية وفاعلة، بما فيه رقابة السلطة التشريعية على التنفيذية فتستعيد دورها وتعود للقضاء استقلاليته وللرقابة هيبتها وصولاً إلى التحرر من قبضة أخطبوط الفساد.