منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في خريف عام 2019، دخل لبنان في نفق طويل من التدهور المالي والمعيشي، حيث باتت معاناة المواطنين جزءاً من الحياة اليومية، وسط تطبيع خطير مع واقع انهيار الاقتصاد اللبناني. ومع تشكيل سلطات جديدة، ارتفعت التوقعات بإطلاق مسار إصلاحي فعلي، غير أنّ الذهنية الاقتصادية السائدة لا تزال تعكس عقلية قائمة على التأجيل، ورفض الإجراءات المؤلمة، والرهان على حلول خارجية بدلاً من تحمّل المسؤولية الداخلية.
في الواقع، طُرحت عشرات مشاريع القوانين الإصلاحية، وأُقرّ عدد منها منذ عام 2008 وحتى عام 2024، شملت قوانين لمكافحة الفساد، وحق الوصول إلى المعلومات، وإصلاح القطاع المالي. لكن معظم هذه القوانين بقيت حبرًا على ورق نتيجة غياب المراسيم التطبيقية، ما يؤكد غياب الإرادة الحقيقية للتغيير. القطاع المصرفي، والذي يُفترض أن يشكّل العمود الفقري لأي انتعاش اقتصادي، لم يُمس فعليًا، بل جرى تأجيل خطة إعادة هيكلته، رغم أن لبنان يمتلك أكثر من ستين مصرفًا، وهو رقم ضخم مقارنة بحجم الاقتصاد الوطني.
يُنتظر من البرلمان اللبناني مناقشة قانون إطار لإصلاح المصارف، لكنه سيبقى غير نافذ بدون قانون معالجة الفجوة المالية. هذه الفجوة، التي تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات، تفتح بابًا واسعًا للنقاش حول توزيع الخسائر: بين من يرى أن الدولة هي المسؤولة عن السداد، وبين من يحمّل المصارف المسؤولية. في كلتا الحالتين، يبقى المودع هو الضحية، إذ بات واضحًا أن الخسائر ستُقتطع بشكل مباشر أو غير مباشر من ودائعه.
صندوق النقد الدولي كان حازمًا برفضه استخدام المال العام لتعويض المودعين، معتبرًا أن الخسائر يجب أن تتحمّلها المصارف أولًا. كما طالب برفع السرية المصرفية، ومحاسبة الفاسدين، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. الفساد المستشري، وغياب أي مساءلة جدية، يعمّقان أزمة الثقة، ويحولان دون جذب أي دعم خارجي.
من جهة أخرى، تبقى الإصلاحات السياسية والأمنية حجر الزاوية لأي خطة إنقاذ. المجتمع الدولي يشترط أن تحتكر الدولة اللبنانية وحدها السلاح، وأن تنفّذ إصلاحات إدارية جذرية، تشمل تقليص حجم القطاع العام وترشيد الإنفاق. كما يشترط اعتماد الحوكمة الرشيدة، والفصل بين السياسة والاقتصاد، خصوصاً أن الفساد المقونن أصبح جزءاً من منظومة الحكم.
إذا لم يُترجم الكلام إلى أفعال، وإذا لم تبدأ مرحلة فعلية من المحاسبة والمساءلة، سيبقى لبنان يدور في حلقة مفرغة. الإصلاحات لم تعد خيارًا، بل ضرورة وجودية لاستعادة الثقة وبناء اقتصاد منتج ومستقر.