انطلاقًا من مبدأ أن الظروف الاستثنائية تستدعي إجراءات غير اعتيادية، منحت “هيئة الشراء العام” الإدارات الرسمية صلاحيات واسعة لتأمين احتياجاتها الطارئة والضرورية. فعلى سبيل المثال، يمكن لوزارة الأشغال أو الدفاع المدني أو البلديات الاتفاق مباشرة مع صاحب حفارة لرفع أنقاض مبنى مستهدف يحوي ضحايا أو لإزالة الردميات عن الطرقات جراء القصف لإعادة فتحها. ويمكن في هذه الحالات التغاضي عن وضع دفتر شروط الصفقات والالتزام بمهل الإعلان التي لا تقل عن 20 يومًا ونشر إعلان في ثلاث وسائل إعلام محلية واشتراط تقدم أكثر من عارض. هذه الشروط التي نص عليها القانون والتي تضمن المنافسة والشفافية في الحالات العادية يمكن تجاهلها في حالات محددة تتعلق بالظروف الاستثنائية وذلك من أجل تسريع الاعمال الإغاثية. لذا سمحت هيئة الشراء العام بالاتفاق الرضائي مع الموردين، ووسّعت نطاق الإنفاق المسموح به دون الحاجة إلى مناقصة عمومية. وتأتي هذه الإجراءات، التي حظيت بموافقة مجلس الوزراء، لتسهيل تنفيذ تعاقدات عاجلة لا تحتمل التأخير.
وللأسف، يقابل الحس العالي بالمسؤولية الذي أبدته هيئة الشراء العام سلوك مغاير من بعض الجهات الشارية. فحتى قبل اندلاع الحرب، كانت هذه الجهات تسعى جاهدة للتملص من إجراء المناقصات القانونية وتنفيذ الصفقات بالتراضي وتغييب المنافسة وتقسيم المشاريع لتتوافق مع آلية الدفع بالفاتورة. ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة، نذكر منها:
- وزارتي الطاقة والاتصالات: حيث كانتا تضعان دفاتر شروط مفصلة على قياس عارض محدد، سواء في شراء الوقود أو تلزيم خدمات البريد أو استحداث خدمات المحفظة الإلكترونية والبث التلفزيوني عبر الإنترنت والرسائل النصية.
- بلدية بيروت: التي برعت في تقسيم المشاريع الكبيرة إلى التزامات صغيرة تُلزم لعارض وحيد، مع سداد المستحقات بفواتير تقل عن 500 مليون ليرة لبنانية، متجنبة بذلك إطلاق صفقات عمومية.
والحقيقة أن هذه الممارسات الاحتكارية أسقطتها الجهات الرقابية لعدم احترامها للقوانين في الظروف العادية. واليوم قد تعمد بعض الجهات الشارية من وزراء ومجالس وصناديق وهيئات وغيرها إلى استغلال الحرب وضرورة اجراء أعمال الإغاثة لتمرير مشاريع لا علاقة لها بأعمال الإغاثة من دون المرور بالاجراءات التي تضمن سلامة المناقصات.
قانون الشراء العام في الحالات الطارئة. صحيح أن الظروف الاستثنائية لا تمثل خروجًا على مبدأ المشروعية ولا تعد استثناءً عليه، وهذا ما حاولت هيئة الشراء العام التأكيد عليه من خلال إخضاع كل المشتريات التي تتم في الظروف الحالية للنشر والرقابة اللاحقين. إلا أن التجربة اللبنانية لا تبعث على الاطمئنان إلى سلوك العديد من الجهات الشارية التي لم تثبت مصداقيتها واحترامها للقانون في الأيام العادية، فكيف بها في الظروف الاستثنائية؟ وإن كان لا مفر من الكثير من التجاوزات في هذه الظروف الاستثنائية، فمن الضروري الانتقال إلى مرحلة جديدة من تطبيق قانون الشراء العام بعد انتهاء الحرب تقوم على توسيع المنافسة والسماح بدخول عارضين متنوعين لتقديم الخدمة ذاتها في مختلف الميادين والمجالات.
بتاريخ 1/ 10/2024، توجهت هيئة الشراء العام إلى جانب الأمانة العامة لمجلس الوزراء بموجب كتابها رقم 558/ 2024 الذي تضمن إيداع نسخة عن المذكرة رقم 8/ه.ش.ع/ تاريخ 30- 9- 2024 المتعلقة بالإنفاق في الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. وقد استندت هذه المذكرة إلى قانون الشراء العام رقم 244 تاريخ 19-7-2021 وتعديلاته، ولا سيما المواد 14 و41 و42 و46 (فقرة 2) و76 و77 و88 منه. وقد صدرت هذه المذكرة نظرًا إلى الظروف الاستثنائية الراهنة التي تحول دون اعتماد بعض القواعد وطرق الشراء المنصوص عليها في المادتين 41 و42 من قانون الشراء العام. كما صدرت بالنظر إلى ضرورة تأمين بعض الحاجات الأساسية والملحة لضمان استمرارية المرافق العامة. وتشمل هذه الحاجات الأدوية والمستلزمات الطبية والمواد الغذائية والمحروقات ومستلزمات الإيواء، بالإضافة إلى بعض الأشغال الطارئة مثل إزالة الركام وإعادة التأهيل وغيرها.
الاستثناءات في حالات الطوارئ والإغاثة
1- الاتفاق الرضائي. استندت هيئة الشراء العام في مذكرتها إلى المادة 46 فقرة (2) من قانون الشراء العام التي أجازت استثنائيًا الشراء بواسطة اتفاق رضائي”في حالات الطوارئ والإغاثة من جراء وقوع حدث كارثي وغير متوقع، ونتيجة ذلك لا يكون استخدام أي طريقة شراء أخرى أسلوبًا عمليًا لمواجهة هذه الحالات”.
2- تجزئة الشراء. استندت المذكرة إلى المادة 14 فقرة (1.أ) من قانون الشراء العام التي أجازت للجهة الشارية تجزئة الشراء إلى أجزاء مستقلة “عندما تتطلب ذلك طبيعة الأعمال أو السلع أو الخدمات، ووجود مبرّرات واضحة كتنوّع مصادر التوريد وتعدّدها أو اختلاف الأجزاء عن بعضها بما يؤدي إلى منفعة أكيدة من التجزئة، على أن يكون القرار مُبرّرًا وخاضعًا للرقابة وفقًا للقوانين المرعية الإجراء”.
3- عدم الإعلان والمباشرة الفورية بالتعاقد. استندت المذكرة إلى نظرية الظروف الاستثنائية، التي تجيز اعتماد طرق قد لا تبدو مشروعة في الظروف العادية، مثل عدم الإعلان والمباشرة الفورية بالتعاقد، وذلك عندما يتعذر تأمين سير المرافق العامة باعتماد الطرق العادية التنافسية مع ما تستوجبه من إجراءات إعداد دفاتر الشروط والإعلان عن الشراء والتقييم وإعلان النتيجة وانقضاء فترة التجميد. ويكون ذلك مشروعًا بقدر ما يهدف هذا التعاقد إلى تأمين سير المرفق العام وبقدر ما يستحيل ذلك باعتماد الطرق العادية وضمن حدود هذه الاستحالة. وقد أجازت هذه المذكرة للجهات الشارية التعاقد مباشرةً بالاستناد إلى المادة 46 من قانون الشراء العام في الحالات الاستثنائية حيث لا يكون ممكنًا تأمين الحاجات الأساسية والملحة بصورة فعالة باعتماد طريقة شراء أخرى وضمن حدود تأمين هذه الحاجات الضرورية.
4- النشر المسبق. أوضحت المذكرة أن المادة 62 من قانون الشراء العام المتعلقة بموجب النشر المسبق لمدة عشرة أيام لا تطبق في هذه الحالة سندًا للفقرة 2 من هذه المادة. إذ تستثني هذه الفقرة من تطبيق النشر المسبق التعاقد الرضائي المسند إلى الفقرتين 2 و4 من المادة 46 من القانون نفسه، على أن يتم نشر العقود الناشئة عن هذا التعاقد عند زوال الظروف الاستثنائية عملًا بأحكام المذكرة الصادرة عن هيئة الشراء العام برقم 2/هـ.ش.ع/2023 تاريخ 16-02- 2023.
وقد أوضحت المذكرة أيضا أنه، وفيما يتعلق بالحاجات الأساسية والمُلحة المشار إليها أعلاه – والتي يعود أمر تقديرها للإدارة المعنية وعلى كامل مسؤوليتها وفي حدود مصادر التمويل المتوفرة وفي ظل رقابة هيئة الشراء العام اللاحقة – يُمكن إجراء الشراء لمرات متعددة وإن شكل ذلك تجزئة. وتكون هذه التجزئة مُبرّرة استثنائيًا باعتبارات المصلحة العامة واستمرارية المرفق العام ضمن الحدود المنصوص عليها في المادة 14 من قانون الشراء العام.
وقد أصدر رئيس مجلس الوزراء التعميم رقم 1655/ص تاريخ 02-10-2024، طالبًا بموجبه إلى الجهات الشارية التقيد بمضمون المذكرة رقم 8/ه.ش.ع/ تاريخ 30/9/2024 المتعلقة بتأمين الحاجات الأساسية والملحة في الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. وبموجب قراره رقم 20 تاريخ 01-10-2024، اطلع مجلس الوزراء على المذكرة رقم ٨ وأخذ العلم بمضمونها ووافق عليها.
تعديل السقوف المالية. بتاريخ 1- 10-2024 وبموجب كتابها رقم 556/ هـ.ش.ع / 2024، توجهت هيئة الشراء العام إلى جانب الأمانة العامة لمجلس الوزراء مقترحة تعديل السقوف المالية الواردة في بعض مواد قانون الشراء العام. وقد عللت الهيئة اقتراحها بأن تعديل هذه السقوف المالية يتم بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على توصية من هيئة الشراء العام، وبأنه نظرًا إلى الحاجات المتكررة للجهات الشارية فإن هذه السقوف المالية باتت متدنية القدرة الشرائية. إذ أوضحت الهيئة أن الإبقاء على هذه السقوف يؤدي إلى اعتماد إجراءات شراء معقدة لعمليات شراء بسيطة، في حين يمكن لاعتماد إجراءات شراء بسيطة أو مخففة مرتبطة برفع قيمة العتبات أو السقوف المالية أن يسهل عمل الجهات الشارية دون الحؤول دون رقابة فاعلة لاحقة من قبل هيئة الشراء العام. وعليه، طلبت الهيئة العمل على استصدار مرسوم لتعديل هذه السقوف لتصبح على النحو التالي:
- المادة 11 (وضع خطط الشراء) – فقرة 1: /10/ مليارات ليرة لبنانية بدلًا من /5/ مليارات ليرة لبنانية.
- المادة 34 (ضمان العرض) – فقرة 2: /5/ مليارات ليرة بدلًا من /2.5/ مليار ليرة لبنانية.
- المادة 37(دفع قيمة العقد) – فقرة 3 (أ): /15/ مليار ليرة لبنانية بدلًا من /5/ مليارات ليرة لبنانية.
- المادة 44 (شروط استخدام طلب عروض الأسعار): /15/ مليار ليرة لبنانية بدلًا من /5/ مليارات ليرة لبنانية.
- المادة 47 (شروط التعاقد بالفاتورة): /1.5/ مليار ليرة لبنانية بدلًا من /500/ مليون ليرة لبنانية».
وقد وافق مجلس الوزراء بموجب قراره رقم 19 تاريخ02-10-2024 على توصية هيئة الشراء العام المتعلقة بالعتبات أو السقوف المالية كما وردت أعلاه.
وتتّسم التدابير المشار إليها أعلاه بالمرونة، إذ تسمح بتسيير عمل المرافق العامة في الظروف الراهنة دون الحاجة إلى اعتماد إجراءات الإعلان ووضع دفاتر الشروط وإعطاء مهل للعارضين لتقديم عروضهم. ومع ذلك، تبقى هذه المرونة مشروطة بأن تكون عمليات الشراء مرتبطة بشكل أكيد بسير المرافق العامة وضرورية له. وحرصًا على الشفافية والمساءلة، تخضع هذه العمليات لشرطين أساسيين: النشر اللاحق حيث يتعين نشر تفاصيل عمليات الشراء على الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام بعد زوال الظروف الاستثنائية والتدقيق اللاحق أي أن تخضع جميع العمليات للتدقيق اللاحق من قبل هيئة الشراء العام.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق