خاص LIMSLB: كيف يتحايل الوزراء على القانون لتنال الشركات المحظية احتكاراتها

الشركات


مُدد عقد التشغيل بين مؤسسة كهرباء لبنان وتحالف الشركات الثلاث المشغل للمعامل والمحركات العكسية في الذوق والجية (MEP.OEG.Arkay Energy)، رغم المخالفة القانونية التي حملها العقد منذ البداية. فشركة Middle East Power، على سبيل المثال، خاضت المناقصة دون تقديم التصريح المطلوب عن حساباتها في لبنان منذ خمس سنوات. بل أكثر من ذلك، فسجلها خالٍ من الموظفين والتجهيزات، ولا اسم لها في سجلات الضمان الاجتماعي. وقد تظللت الشركة بهذا التحالف باعتبارها وحدة متكاملة، مخالفةً دفتر الشروط الخاص. إلا أنها فازت مع شريكتيها بتمديد جديد وبمباركة قضائية. وكذلك مُددت عقود شركات مقدمي الخدمات الأربعة (MRAD, NEUC, KVA, BUS).

وليس قطاع البريد بأفضل حالاً من غيره، فمنذ العام 1998، تاريخ ولادة “ليبان بوست” رسمياً، لم تُجرِ الدولة اللبنانية أي تلزيم حقيقيّ. فبعد أن باعت الشركتان الكنديتان حصتيهما في أيلول 2001 لمستثمرين لبنانيين، تدحرج القطاع من تمديد إلى تمديد، تخلّله بيع وشراء للحصص وصولاً إلى نهاية العام 2021 عندما حصل المشغلون الجدد على ثلاثة تمديدات قصيرة وسريعة للعقد. وبعد عودة الرئيس ميقاتي للرئاسة الثالثة، مُنح العقد تمديداً آخرَ حتى نيسان 2022. ومنذ ذلك التاريخ، لم توفَّق الحكومة في إنجاح جلسة تلزيم واحدة رغم المحاولات المتعدّة (كانون الثاني 2023، شباط 2023، حزيران 2023)، وبقي البريد اللبناني صندوقاً دسماً في أيدي مجموعة متشابكة المصالح.

ولعلّ القاسم المُشترك الوحيد بين هذه الشركات الممدد لها قسرا هو تقديمها أعلى أسعار لأسوأ خدمات. فشركات تشغيل المعامل الكهربائية متوقفة عن العمل منذ زمن، ومقدمو الخدمات متأخرون في الجباية بأكثر من سنة، هذا عدا عن بقية المشاكل الإدارية. وبدورها تتحكم “ليبان بوست” في أعناق اللبنانيين منذ زمن طويل وتفوت على الدولة مداخيل سنوية بالملايين. كل ذلك لأن السلطة اختارت تلزيم شركات محددة بدفاتر شروط مفصلة سلفاً على مقاسها، ومن ثم التمديد لها بحجج واهية كعدم وجود مقدم كفؤ آخر للخدمة نفسها. ومن ذلك مثلاً محاولة التعاقد مع “ميديا ستريم” الذي عاد وأسقطه ديوان المحاسبة بالضربة القاضية، أو لانتهاء العقد قبل إنجاز المناقصة الجديدة أو بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية وتعطل الإدارة أو لعدم وجود عارضين مهتمين أو لتقصير مهل الإعلان إلى الحد الأقصى… وجميعها حجج تودي بالاقتصاد رويداً رويداً نحو الهلاك.

وفي الوقت الذي تحول فيه تلزيم الوزراء منفردين عارضين محددين من خلال تفصيل دفاتر شروط على مقاسهم إلى عُرفٍ، ينبغي العودة إلى أساسيات عمل السوق للتخلص من هذا السلوك غير السوي. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال فتح القطاعات المراد تلزيمها على المنافسة الكاملة. ويُقصَد بهذا التعبير عدم تلزيم أي قطاع لعارض واحد مهما كان عظيما ومهما تحققت فيه شروط المنافسة بحسب قواعد الشراء العام ومتطلباته. إذ لا يمكن مثلا تلزيم البريد إلى الميكانيك، أو خدمات فوق السطح OTT إلى شركة واحدة، حتى وإن كان عرضها هو الأفضل من بين عدة شركات لجهة تقديم الأسعار الأقل والعائد الأعلى للخزينة. فمصلحة الاقتصاد الفعلية تتحقق بتنوع الشركات وتنافسها فيما بينها على جذب الزبائن الذين يختارون هم لا الوزير الشركة التي يرغبون التعامل معها. عندها يصبح الالتزام بأدنى الأسعار وأفضل الخدمات فرضاً واجباً على أرض الواقع لضمان استمرارية الشركة، وإلّا يتوقف المستهلك عن طلب الخدمة من الشركة ذات السعر المرتفع والخدمة الرديئة فتخسر زبائنها ويلجأ المواطن إلى الشركات البديلة. ويسمح هذا النظام بتعديل ميزان القوى لصالح المستهلك بدلا من الاعتماد على نص مكتوب يضمن المنافسة نظريا، ولكن يستطيع الوزراء خرقه بالعديد من الأساليب الملتوية. إذ يتحول هذا العارض إلى محتكر للسوق بمجرد فوزه بالمناقصة لفترة طويلة من الزمن، مفوّتاً على الاقتصاد إمكانية دخول عارضين جدد طوال فترة التزامه وبالتالي حرمان الاقتصاد من أي تطور يساعد على تحسن الخدمة ورفع كفاءتها وتخفيض سعرها بشكل أكبر.

أما في لبنان، وفي سابقة نادراً ما تحصل في دول العالم، يمكن لعقود الشراكة أن تمدّد لعقود من الزمن على قاعدة “لي حصّة هنا ولك أخرى هناك”. بينما تنزف خزينة الدولة، جريحة، آخر ما تبقى في أوردتها من مال، يتحوّل الجرّاح إلى جزّار والمستشفى إلى دهليز لبيع الأعضاء. هنا يتواطأ الجميع في حفلة الفساد ويبقى الوطن هو وحده الضحيّة. وتوضح هذه الورقة الأساليب الملتوية التي يستعملها الوزراء لتجديد العقود أو تبرير التعاقد مع عارض وحيد من دون العودة إلى مناقصة شفافة تضمن المنافسة
           
استنباط حالات جديدة لتبرير التعاقد مع عارض وحيد على أساس المحسوبيات

فيما حدد نص المادة ٤٦ من قانون الشراء العام ست حالات تجوز فيها الاتفاقيات الرضائية، إلا أن ممارسات بعض الوزراء أضافت حالتين جديدتين للاتفاقيات الرضائية، غير مبندة بالقانون، تسمح للوزراء بانتقاء عارض وحيد على أساس المحسوبيات. وهاتان الحالتان هما:

1- التلطّي خلف قرار ديوان المحاسبة لتمديد العقود المنتهية مدتها. لا تلتزم بعض الجهات الشارية بموجب التخطيط المنصوص عليه في المادة ١١ من قانون الشراء العام لناحية إعداد خطط شراء سنوية مرتكزة على تحديد الحاجات ومتناسقة ومتناغمة مع موازنة تلك الجهات للسنة المالية القادمة. ومن المعلوم أن التخطيط لتحديد مواعيد إجراء المناقصات ينطلق من موعد انتهاء العقد إلى الوراء لتحديد موعد إطلاق المناقصة ضمن فترة كافية لتقديم عروضها وتقييمها وإعلان نتيجتها وإرسالها إلى المراجع المختصة بالرقابة والتصديق عند الاقتضاء. ويأتي كل ذلك مسبوقا بإعداد دفتر شروط المناقصة وتحضير وثائقها قبل انتهاء العقد، وإلّا تحوّل التمديد القسري بحكم استمرارية المرفق العام إلى أمر واقع. واليوم، يستخدم بعض أعضاء السلطة التقريرية لدى بعض الجهات الشارية هذه النظرية التي ابتدعها القضاء الدستوري والإداري لتأمين استمرارية المرافق العامة لارتباط عملها بتقديم خدمات أساسية ملحة وحيوية للمواطنين، لتأمين استمرارية بعض الشركات في الاستفادة من التعاقد مع القطاع العام على مدى سنوات ضربا لقواعد المنافسة وقانونها المغيب عن البال كما مجلسها الأعلى المنسي.

 ولعلّ ذريعة وجهة النظر هذه أن بعض العقود قد انتهت مدتها دون أن تكون الجهات الشارية المعنية قد حضرت لإجراء مناقصات جديدة وأعدت وثائق هذه المناقصات ودفاتر شروطها. وغالبا ما يكون ذلك ناتجا عن تقاعس هذه السلطات وإهمالها وعدم إدراكها لموجباتها. وقد يكون الأمر أن هذه الجهات الشارية قد حضرت دفاتر الشروط ووثائق المناقصات وأعلنت عنها إلا أن المناقصات لم تسفر عن نتائج إيجابية بذريعة الأوضاع المالية والاقتصادية التي تمر بها البلاد بينما يكون السبب الحقيقي عائداً إلى الجهة الشارية مثل عدم كفاية مدة الإعلان أو غموض بعض أحكام دفتر الشروط الخاص بالصفقة. لذا فدائماً ما أكدت هيئة الشراء العام أنه، وانطلاقاً من مبدأ استمرارية المرافق العامة، يعود للجهات الشارية وعلى كامل مسؤوليتها تمديد العقود المنتهية مدتها إلى حين إنجاز المناقصات العائدة لها، على أن يتم هذا الإنجاز بأسرع وقت ممكن ودون إبطاء وللمدة الكافية لإنجاز المناقصات وتقييم عروضها وإعلان النتائج وتوقيع العقود.

 وفي هذا الإطار، صدر عن ديوان المحاسبة الرأي الاستشاري رقم 63/2024 بموضوع تمديد عقد صيانة وتشغيل معملي المحركات العكسية في الذوق والجية. إذ أكد الديوان في هذا الرأي على أنه إذا كانت القاعدة العامة هي إجراء مناقصة جديدة عند انتهاء العقد الإداري، فإن الظروف الاستثنائية السائدة في البلاد تبرر ولفترة محدودة الخروج عن هذه القاعدة لتأمين استمرارية المرفق العام وتحقيق فرص إيصال المزيد من الكهرباء إلى المواطنين ولما في ذلك من انعكاس إيجابي على الوضع الاقتصادي في البلاد والمردود النقدي وسلامة المنشآت. وتجدر الإشارة إلى أن الاستثناء يبقى مقيدا بالظروف التي أملته ولفترة انتقالية محدودة.

وفي هذا الرأي، أكد ديوان المحاسبة أيضاً أنه وبحكم كونه جهازاً رقابياً مستقلاً عن الإدارة، لا يمكنه أن يصبح جزءاً من عمليات التفاوض التي تجريها الإدارات والمؤسسات العامة مع المتعهدين أو طرفاً في تحديد أسعارهم أو أتعابهم. وفي هذا رد على مزاعم الجهة الشارية طالبة الرأي بأنها فاوضت وخفضت وحصلت على أفضل ما هو ممكن لمصلحة الدولة.

ولا ينبغي للجهات الرقابية الاكتفاء بإعطاء الرأي في جواز الاستمرار في هذه الاتفاقيات استثنائيا لفترة محددة ولتأمين استمرارية المرافق العامة، ب يتحتم عليها إنزال العقوبات الرادعة بالمخلين بموجباتهم متى ثبت أن هذا الإخلال كان عن سوء نية وألحق ضررا بالمال العام.

2- قدرات استثنائية يملكها عارض وحيد. تفيد وجهة نظر أخرى رائجة لدى بعض الجهات الشارية (لا تقل خطورة عن الأولى بل تتجاوزها) أن المشروع الذي ترغب الجهة الشارية في تنفيذه يتطلب خبرة فنية خاصة. وتتطلب هذه الخبرة من الاستشاري الذي سينفذ المشروع أن يكون لديه مثلاً تأمين على الدراسات والاستشارات والتصميم من نوع خاص لضمان السلامة العامة وضمان ديمومة المنشأة وسلامتها في ظروف العمل الصعبة. وكأن هذه الخبرة لا تتوفر إلا في الشركة التي تريد الجهة الشارية التعاقد معها بالتراضي، وأن هذا النوع من التأمين لا تجريه إلا هذه الشركة. ويتمّ كل ذلك للترويج لديمومة عقد استمر لعشرات السنين، فتضرب بذلك قانون المنافسة بكل ركائزه كما قانون الشراء العام وتنشئ احتكارات الأمر الواقع التي لا تنشأ بقوانين وإنما بإرادة بعض السياسيين. وقد تتذرع بعض الجهات الشارية بذرائع مماثلة كأن تزعم مثلا بأنه لا يمكن الاعتماد في تصميم مشاريعها وتنفيذها ومتابعة تنفيذها إلا على شركات دولية «عريقة» كما تسميها وتطرح اسم الشركة المحظية كأنها الوحيدة الممكن التعاقد معها لتبرر تعاقدا رضائيا من خارج أحكام القانون. بل قد تذهب بعض الجهات الشارية الأخرى (في الترويج لشركة لا ترضى أن تتعاقد مع سواها) إلى أن أي شركة جديدة يتم التعاقد معها لا يمكنها التحكم بالمعطيات الفنية الخاصة بالمشروع، وتورد مثلا حركة الرياح والموج، والسفن والرافعات والتخزين والزلازل. فلكأنّ شركة واحدة في العالم هي وحدها قادرة على التعاطي مع هذا النوع من الصعاب.

وينبغي أن يكون هذا التحايل لتمرير عقود رضائية مع شركات محظوظة موضع متابعة ومساءلة وملاحقة. كما ينبغي إلزام الجهات الشارية التقيد بأحكام المادة ٤٦ من قانون الشراء العام وعدم اللجوء إلى أي تعاقد من خارجها. فقد شكّلت الاتفاقيات الرضائية سببا أساسيا في استنزاف خزينة الدولة وماليتها، وقد حان وقت وقفها. وإذا كان الإصرار على الاستمرار مع بعض الشركات نابعاً من مصالح بعض من هم في مواقع القرار، فهذا يشكل نموذجا لحالات تضارب المصالح ينبغي مواجهته بالسبل القانونية عبر تجريم الامتناع عن التصريح عنه. ويؤكد ذلك أهمية تصريح هذه الشركات عن أسماء أصحاب الحق الاقتصادي لديها تطبيقا لأحكام المادة السابعة من قانون الشراء العام ونشر هذه الأسماء عملا بقواعد الحوكمة والشفافية وتنفيذا لقانون حق الوصول إلى المعلومات.

فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق