بعد سنوات من التحذيرات والتوصيات الدولية، تحول هاجس دخول “اللائحة الرمادية لغسل الأموال” إلى واقع في لبنان. فقد أدرجت مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) لبنان رسمياً على قائمتها الرمادية في ختام اجتماعاتها الأخيرة في باريس.
ويأتي هذا الإدراج في سياق الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها البلد، وليسلط الضوء على رهان مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في البلاد، وسط تساؤلات على كلفته المحتملة وتداعيات على اقتصاد البلاد.
ويعتبر خبراء اقتصاديون أن إدراج لبنان على “اللائحة الرمادية” جاء “نتيجة حتمية لسنوات من الفساد والإهمال، الأمر الذي ساهم في تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية للبلاد”.
وفي المقابل، يرى آخرون أن “هذه الأزمة قد تمثل فرصة سانحة للإصلاح، وحافزاً لاتخاذ خطوات عاجلة لمعالجة الثغرات في النظام المالي وتعزيز الشفافية والمساءلة”.
وتقود مجموعة العمل المالي التحركات الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار الأسلحة، إذ تُقيّم تحركات الدول لمواجهة استعمال الأموال في أنشطة غير مشروعة وجرائم بينها الإرهاب.
دائرة الضغوط
في هذا السياق، تشير الباحثة في القانون المالي الدولي والجرائم المالية، محاسن مرسل، في حديث لموقع “الحرة”، إلى أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية “جاء نتيجة ضغوط دولية مكثفة، خاصة في ظل الحرب بين لبنان وإسرائيل، والتي تزامنت مع محاولات حثيثة من قبل إسرائيل وبعض الدول الغربية للدفع نحو اتخاذ هذا القرار”، مستندة إلى ما وصفته بـ”ضعف الإجراءات التي تتبعها الحكومة اللبنانية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب”.
وفي السياق، تؤكد مرسل أن مصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني “ملتزمان بمعايير الشفافية الدولية”، لكن “بعض الأزمات الداخلية ساهمت في إدراج لبنان على اللائحة الرمادية”، مشيرة إلى أن “التحديات السياسية، مثل الفراغ الرئاسي وعدم انتظام العمل في بعض المؤسسات، كان لها دور بارز في لفت الأنظار الدولية نحو لبنان، إضافة إلى أن الضغوط المتزايدة نتيجة الحرب القائمة دفعت المجتمع الدولي للمطالبة بإصلاحات شاملة وملموسة من الجانب اللبناني”.
كما تشير المتحدثة إلى أن محادثات مجموعة العمل المالي كشفت عن “تحفظات” عدة تتعلق بأداء الحكومة اللبنانية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، شارحة أن “التحفظ الأول” يتمثل في “غياب الشفافية” في الملاحقات القضائية، خاصة في قضايا التهرب الضريبي وجرائم الاتجار بالمخدرات والتهريب.
أما التحفظ الثاني فيتعلق بـ”عدم تبني” الحكومة اللبنانية “سياسات فعالة” لملاحقة الأموال الناتجة عن الفساد، لا سيما تلك التي “يتم تهريبها” إلى ولايات قضائية خارجية.
وفيما يخص التحفظ الثالث، تسجل الباحثة في القانون المالي الدولي والجرائم المالية “غياب تحقيقات جدية” في القضاء اللبناني بخصوص التهديدات المرتبطة بالجماعات المسلحة الكبرى، “الأمر الذي يضع علامات استفهام حول مدى التزام لبنان بالمعايير الدولية المطلوبة لتحقيق الشفافية والأمان المالي”، وفقها.
بين القديم والجديد
في المقابل، يقلل الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا، في حديث لموقع “الحرة”، من تأثيرات التصنيف لبنان في القائمة الرمادية لغسل الأموال، معتبرا أن القرار يهدف إلى مراقبة مدى التزام البلد بتطبيق المعايير والشروط الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب “دون أن يؤدي ذلك إلى عزله مالياً أو فصله عن النظام المالي العالمي كما يخشى البعض”.
ولتوضيح وجهة نظره، يعود المتحدث إلى قصة ورود لبنان في تصنيفات مكافحة غسل الأموال، آخرها تقرير سابق لمجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا صدر في ديسمبر 2023 ورد تقييم للتدابير التي اتخذها لبنان لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك بعد زيارة ميدانية للمجموعة إلى البلد بين 18 يوليو و3 أغسطس 2022.
التقرير تعقب، وفق أبو شقرا، مدى التزام لبنان بـ”التوصيات الأربعين” التي طالبته مجموعة العمل المالي باتباعها، وبيّن أن لبنان “ملتزم كلياً بتسع توصيات، وجزئياً بست توصيات، بينما يظهر التزاماً كبيراً بـ 25 توصية أخرى”.
قبل ذلك، جرى إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. حدث ذلك لأول مرة عام 2000، قبل أن يزال من تلك اللائحة عام 2002. ويرجع أبو شقرا هذا التطور آنذاك إلى “التزام لبنان الجاد” بقوانين مكافحة تبييض الأموال، مشيراً إلى إقرار قانون مكافحة تبييض الأموال عام 2001، الذي “استوفى 23 معياراً من أصل 24 مطلوباً لمكافحة هذا النوع من الجرائم”.
ويوضح أبو شقرا أن التهرب الضريبي كان أحد المعايير غير المستوفاة حينها، مستدركا “إلا أن ذلك لم يمنع من إزالة لبنان من اللائحة، وقد ساعد في هذه الخطوة إنشاء هيئة تحقيق خاصة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال، مهمتها التحقيق في العمليات المشبوهة، إضافة إلى رفع التحفظات عن انضمام لبنان إلى اتفاقية فيينا لعام 1988، الأمر الذي دعم جهود البلاد في مكافحة تبييض الأموال وسمح بإزالته من اللائحة”.
وفي عام 2015، أقر لبنان سلسلة من القوانين الرامية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، من بينها وفق ما يقوله أبو شقرا، قانون انضمام لبنان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة تمويل الإرهاب، وتعديلات على قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إضافة إلى قانون التصريح عن نقل الأموال عبر الحدود وقانون تبادل المعلومات الضريبية.
ونجحت هذه التدابير، وفق أبو شقرا، في “تجنيب” لبنان اتهامات تبييض الأموال حتى عام 2019، “لكن التحديات الاقتصادية الراهنة باتت تتطلب إجراءات أوسع”، وفق قوله.
تأثيرات القرار
بدوره، يرى الخبير الإستراتيجي في المخاطر المصرفية والاقتصادية، محمد فحيلي، في تصريحه لموقع “الحرة”، أن قرار إدراج لبنان في اللائحة الرمادية لغسل الأموال دليل على أن البلد “يعتبر متعاوناً جزئياً في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”.
وحتى لو تم تصنيف لبنان كدولة غير متعاونة في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب فسيكون لذلك “تأثير محدود على القطاع المالي”، وفقاً لما يشير إليه فحيلي، الذي يعزو منظوره إلى “التداعيات التي ظهرت منذ إعلان حكومة حسان دياب التوقف عن سداد الدين العام في مطلع عام 2020”.
ويشرح فكره قائلا “قرار حجوم دياب أدى إلى تصنيف لبنان كدولة متعثرة، مما انعكس سلباً على القطاع المصرفي والشركات المالية، فقد تضررت علاقات المصارف المحلية مع البنوك المراسلة، بالإضافة إلى تراجع التحويلات المالية، خاصة تلك ذات القيمة العالية، مما فاقم من أزمة السيولة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني”.
ويوضح فحيلي أنه “من أصل 54 مصرفاً تجارياً و13 شركة مالية في لبنان، لم تستطع سوى قلة من المصارف الحفاظ على علاقات قوية مع المصارف المراسلة بفضل التزامها الصارم بإجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وإدارة المخاطر الائتمانية”.
بناءً على هذا الواقع، فإن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية “لن يفاقم الأزمة المالية بشكل كبير”، وفق فحيلي، “لا سيما أن المصارف اللبنانية التي نجت من تأثيرات 2020 ما زالت تحتفظ بعلاقات جيدة مع المصارف المراسلة، مما يعزز قدرتها على التكيف مع الظروف الراهنة، كما أن المصارف اللبنانية التي تتعامل بأموال نظيفة لن تتأثر كثيراً بهذا الإدراج، إذ يمكنها إثبات أن مصادر أموالها مشروعة”.
ويشدد فحيلي على أن “هذا التصنيف يجنّب المصارف المراسلة اتخاذ إجراءات متشددة مثل قطع العلاقات نهائياً”، مشيراً إلى أن “التحديات التي ستواجه المصارف اللبنانية ستنحصر في تعزيز إجراءات مكافحة تبييض الأموال وليس في زيادة المخاطر الائتمانية، مما يعني أن التحويلات والاستثمارات النزيهة ستظل محمية من التأثيرات السلبية للإدراج على اللائحة الرمادية”.
وفيما يتعلق بتأثير هذا الإدراج على سعر صرف الليرة اللبنانية، يؤكد فحيلي أن “الانكماش الاقتصادي الذي يشهده لبنان حالياً نتيجة الأزمة الراهنة ساهم في تقليل الطلب على العملات الأجنبية، والسيولة المتوفرة من العملة الأجنبية تكفي حالياً لدعم استقرار سعر الصرف”.
وعن التحويلات المالية، يشير إلى أن “لبنان سيظل مرتبطاً بالعالم الخارجي وسيستمر في استقبال الأموال الأجنبية من عملات مثل الدولار واليورو، خاصة من مصادر نظيفة تلتزم بالمعايير المطلوبة. ومع ذلك، قد تصبح التحويلات المالية أكثر تشدداً من حيث الإجراءات، حيث قد تتطلب مستندات إضافية وقد تستغرق بعض التحويلات المالية وقتاً أطول، مع ارتفاع طفيف في الرسوم”.
وحول ما إذا كان وضع لبنان على هذه اللائحة سيعرقل جهود إعادة الإعمار بعد الحرب، يجيب الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا بالنفي، شارحاً أن “هذه اللائحة تضع البلاد تحت رقابة مشددة، حيث يتعهد لبنان كتابياً بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة خلال فترة زمنية تمتد لعامين حتى عام 2026”.
ويؤكد أبو شقرا أنه “خلال هذه الفترة، لن يتم قطع العلاقات مع المصارف المراسلة، ولن تمنع تحويلات الأموال من الداخل إلى الخارج، كما لن يتوقف فتح الاعتمادات المستندية لأغراض التجارة الخارجية”.
ومع ذلك، يوضح أن هناك تدقيقاً إضافياً على التحويلات المالية عبر الشركات المالية أو المصارف، مما يؤدي إلى زيادة تكلفة هذه العمليات.
كما يشير إلى أن المساعدات المالية إلى لبنان، التي تُعرف مصادرها، ستستمر في الوصول إلى البلاد، رغم وجود تدقيق أكبر على كيفية صرفها داخل لبنان، كذلك يشير فحيلي إلى أن إدراج لبنان على هذه اللائحة لن يؤثر على المساعدات الخارجية مشيراً إلى أن “مبلغ الـ 800 مليون دولار الذي تم التعهد به في مؤتمر باريس لدعم لبنان سيصل بشكل نقدي، ولا يرتبط بهذا القرار”.
موقف مشابه تتبناه الباحثة في القانون المالي الدولي والجرائم المالية، محاسن مرسل، معتبرة أن قرار إدراج لبنان على اللائحة الرمادية “لا يحدث تأثيراً فورياً”، لكنه “يمثل تحذيراً للحكومة اللبنانية ودعوة للإصلاح”، وتوضح أنه “في حال عدم اتخاذ خطوات فعلية، قد يتزايد الضغط الدولي، مما قد يؤدي إلى إدراج لبنان في القائمة السوداء، وهو سيناريو قد يعمق الأزمة الاقتصادية ويهدد بقطع العلاقات المالية بين لبنان والدول الأخرى”.
لكن مرسل تعتبر في المقابل أن قرار مجموعة العمل المالي يمثل “نقطة تحول حاسمة” في مسار الاقتصاد اللبناني، مشيرة إلى أنه يوفر فرصة للحكومة لاتخاذ إجراءات جادة لإنقاذ الاقتصاد وفتح صفحة جديدة في علاقتها مع المجتمع الدولي، مؤكدة أن الوقت لا يزال في صالح لبنان، لكن “تبقى القرارات السياسية العامل الحاسم في ظل الأزمات المتفاقمة وضغوط الإصلاحات الدولية”.