يواجه لبنان اليوم تحديات اقتصادية غير مسبوقة تتطلب تغييراً جذرياً في النهج المتبع لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي. تشير التحليلات إلى أن الاعتماد على القروض الدولية والنفقات العامة لم يعد خياراً قابلاً للتطبيق، خاصة في ظل فقدان الثقة الدولية بقدرة الحكومة اللبنانية على إدارة الأموال بشفافية وكفاءة.
يتطلب الوضع الحالي التحول نحو نموذج اقتصادي جديد يرتكز على جذب الاستثمارات الخاصة المباشرة بدلاً من الاعتماد على القروض الحكومية. يستدعي هذا التحول خلق بيئة استثمارية مواتية من خلال إصلاحات هيكلية عميقة، أبرزها تفكيك الاحتكارات القائمة في قطاعات البنى التحتية الأساسية كالكهرباء والاتصالات والطيران.
تعاني البنى التحتية في لبنان من تدهور حاد يعيق أي محاولة لجذب رؤوس الأموال الأجنبية. تفرض الاحتكارات القائمة أسعاراً مرتفعة على الخدمات الأساسية، مما يرفع الكلفة التشغيلية للشركات ويجعل لبنان وجهة غير تنافسية للاستثمار. يظهر ذلك جلياً في أسعار تذاكر الطيران المرتفعة التي تحد من حركة السياحة والمغتربين، وفي كلفة الكهرباء الباهظة التي تثقل كاهل المؤسسات الاقتصادية.
يمكن للهيئات الناظمة المعينة حديثاً أن تلعب دوراً محورياً في إحداث التغيير المطلوب من خلال إصدار تراخيص لشركات خاصة تنافس الاحتكارات القائمة. يشمل ذلك السماح لشركات طيران جديدة بالعمل في السوق اللبناني، وترخيص شركات كهرباء واتصالات خاصة، مما يخلق بيئة تنافسية تخفض الأسعار وتحسن جودة الخدمات.
يتطلب نجاح هذا النموذج أيضاً إصلاحات نقدية تضمن استقرار سعر الصرف وتعيد الثقة بالنظام المالي اللبناني. يقترح البعض اعتماد نظام مجلس النقد الذي يربط إصدار الليرة اللبنانية بالاحتياطات من العملات الأجنبية، مما يضمن استقراراً نقدياً مستداماً ويطمئن المستثمرين بشأن القيمة المستقبلية لاستثماراتهم.
تشكل إعادة تفعيل القطاع المصرفي عنصراً أساسياً في جذب الاستثمارات، إذ يحتاج الاقتصاد إلى قطاع مصرفي قادر على منح القروض بالدولار الفعلي وليس بالشيكات المصرفية. يساعد ذلك في الحد من الاقتصاد النقدي غير الرسمي ويعزز الرقابة على التعاملات المالية.
تبقى الإرادة السياسية والالتزام بالإصلاحات الهيكلية العميقة هي العامل الحاسم في تحويل لبنان إلى وجهة جاذبة للاستثمارات. يتطلب ذلك تجاوز المصالح الضيقة والتركيز على المصلحة الوطنية طويلة الأمد.