إعادة بناء الثقة الإقليمية: مفاتيح إنهاء عزلة لبنان وعودة الاستثمار الأجنبي والخليجي

يشهد لبنان اليوم وضعاً اقتصادياً ومالياً معقداً يرتبط بشكل وثيق بخلفيات سياسية متشعبة. يتطلب الخروج من هذه الأزمة معالجة شاملة تشمل الإصلاحات المالية والنقدية والسياسية، حيث تبقى هذه الملفات مترابطة ومتشابكة مع بعضها البعض.

شكّل مؤتمر بيروت الاستثماري الأخير منصة حقيقية، خصوصاً أن تنظيمه جاء من قطاع عام يعتمد على جذب الاستثمارات للشراكة والتشارك مع القطاع العام لتأهيل البنى التحتية بشكل أساسي وكل المرافق التي تحمل قيمة مضافة. لكن الحضور لم يكن كما كان يُشهد بمؤتمرات القطاع الخاص التي كانت تصير قبل الأزمة قبل 2019، خصوصاً من الناحية العربية. تلقى المؤتمر وعوداً باستثمارات تراوحت بين 2.5 و5 مليارات دولار، أي أقل من 1% من الاستثمارات التي أعلن عنها المؤتمر الاستثماري السعودي-الأميركي الذي وصل إلى 270 مليار دولار بحسب الرئيس ترامب.
يلفت الانتباه أن طبيعة الاستثمارات المطروحة تركزت على البنية التحتية الأساسية: الكهرباء، المياه، الطرقات، والبنى التحتية الأخرى. بينما تستثمر دول مثل السعودية اليوم بالرقائق، الذكاء الاصطناعي، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد ذكي. يشبه الاستثمار بالتكنولوجيا اليوم التوابل بالعصور القديمة نظراً لأهميتها ونظراً لثقل الاقتصادي بين الدول، ومن يملك اليوم هذه التكنولوجيا يملك المستقبل، في حين ما زال لبنان يتحدث عن البنية التحتية الأساسية.

يواجه لبنان تحديات كبيرة على صعيد قانون الشراكة رقم 48 لعام 2017. يعتبر هذا القانون معرقلاً للشركات الصغيرة والمتوسطة بدل أن يكون جاذباً لها. تشمل الإشكاليات التقنية غياب جهوزية هيئة الشراء العام لتحكم وتلزيم إيرادات الدولة، إضافة إلى أن القانون الشراكي لا يفسح المجال أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة للاستثمار ويعتبر طارداً للاستثمارات.
يتطلب تطبيق مشروع شراكة ما لا يقل عن 11 أو 12 مرحلة، ويستغرق ذلك سنة لسنتين على الأقل. يطالب الخبراء بتعديل القانون رقم 48 على 2017 ليصبح أكثر جذباً وأكثر قدرة على جذب الاستثمارات، عداك عن أن لبنان ما زال يعتمد على قوانين أيام العثمانيين من القرن التاسع عشر لكيفية التشارك مع القطاع الخاص.

يمثل قطاع الاتصالات نموذجاً واضحاً للاحتكار الحكومي. أنشئت شركة ثالثة مؤخراً، لكنها أيضاً مملوكة 100% للدولة بدل أن تفتح السوق على المنافسة. بدلاً من فتح السوق على المنافسة، تستمر الدولة في كسر الاحتكار من خلال إنشاء شركات حكومية جديدة، مما يعيق دخول القطاع الخاص ويحرم المواطنين من خدمات أفضل وأسعار أقل.
العلاقات السورية-اللبنانية: فرص واعدة أم تحديات معقدة؟
تشكل سوريا اليوم أكبر منصة لإعادة الإعمار في الشرق الأوسط بعد 13 سنة من الحرب. أعرب أكثر من 500 شركة عن رغبتها بالاستثمار في سوريا خلال مؤتمر بيروت الاستثماري. تتمتع سوريا بموقع استراتيجي كدولة كبيرة تفتح أبواباً على العراق وبقية الدول العربية، مما يجعلها سوقاً واعدة للشركات اللبنانية.
لكن تواجه هذه الفرص عوائق عديدة. تتطلب العلاقات اللبنانية-السورية مراجعة شاملة لكل الاتفاقيات القديمة، بما في ذلك اتفاقيات التبادل التجاري التي كان يرعاها المجلس الأعلى اللبناني-السوري الذي تم حله. تحتاج المؤسسات المالية السورية إلى إعادة هيكلة كاملة، ويجب معالجة الإشكاليات القانونية والحدودية بما فيها ترسيم الحدود البحرية والبرية، الملف القضائي، والسجناء السوريين في لبنان، وإعادة صياغة الاتفاقيات التجارية.

يعاني الاقتصاد اللبناني من إشكاليات بنيوية عميقة. تفرض الحاجة الملحة لتحديث البنية التحتية ضغوطاً كبيرة على الموازنة العامة. يحتاج قطاع الكهرباء وحده إلى استثمارات ضخمة، حيث تشير التقديرات إلى أن الهدر في الشبكة يصل إلى 50%. تعاني مؤسسة كهرباء لبنان من مشاكل هيكلية تتطلب إعادة تأهيل شاملة لمكاتبها ومعداتها، إضافة إلى الحاجة لتعيين مجلس إدارة جديد يتمتع بالكفاءة والنزاهة.
يواجه قطاع المياه تحديات مماثلة، حيث تصل المياه لبعض الأحياء مرة واحدة كل ثلاثة أسابيع ولمدة لا تتجاوز أربع ساعات. تستدعي هذه الأوضاع إدخال القطاع الخاص كمنافس مع احتفاظ الدولة بمؤسساتها، لكن مع فتح المجال للمنافسة وتقديم خدمات بجودة أعلى ونوعية أحسن وسعر أقل.

يشكل موضوع مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب تحدياً رئيسياً أمام لبنان في علاقاته الدولية. صدرت مجموعة كبيرة من القوانين منذ 2015 لتبييض الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب، لكن التطبيق الفعلي على أرض الواقع ما زال محدوداً. أصدر مصرف لبنان التعميم 165 الذي ينشئ آلية لمقاصة التبادل بالشيكات بالدولار وباللبنانية ومن الحسابات النقدية الكاش، مع فصل الحسابات القديمة عن الجديدة.
صدر مؤخراً القرار رقم 170 الذي يمنع بشكل مطلق التعامل مع أي من المؤسسات المدرجة على لوائح العقوبات أو غير المرخصة والتي تتعاطى بالشأن المالي. أدرجت أسماء مثل القرض الحسن وبيت التمويل عند المسلمين ومؤسسات أخرى كمؤسسات غير مرخصة من مصرف لبنان ومتهمة بتبييض الأموال. لكن هذا الإجراء وحده قد لا يكون كافياً، إذ يحتاج لبنان إلى رفع دعاوى قضائية لإقفال هذه المؤسسات بشكل نهائي.

يمثل الاقتصاد النقدي (الكاش) نسبة كبيرة من الاقتصاد اللبناني. تشير بعض التقديرات إلى أن حوالي 65% من الاقتصاد، بقيمة تقارب 14 مليار دولار، يعمل خارج المنظومة المصرفية الرسمية. تستدعي مكافحة الاقتصاد الموازي تعزيز آليات الرقابة وتفعيل دور المؤسسات المعنية، بما في ذلك هيئة التحقيق الخاصة، القضاء المالي، النيابة العامة المالية، والقوى الأمنية.
طالب المجتمع الدولي ومجموعة العمل المالي (FATF) ووزارة الخزانة الأميركية لبنان بوقف تدفق الأموال غير المشروعة وتطبيق القوانين الموضوعة. يتطلب ذلك الانتقال من النظري إلى التطبيقي: وضع إحصاءات، تحديد المشاكل، مصادرة الأصول، وتشابك الأجهزة المعنية مع بعضها البعض لضبط السوق الموازية.

تشكل الودائع المصرفية أحد أكثر الملفات تعقيداً في الأزمة المالية اللبنانية. لم يصدر بعد قانون شامل بشأن الودائع، رغم مناقشة عدة اقتراحات في لجنة الاقتصاد النيابية. تنقسم الودائع إلى فئتين رئيسيتين: الودائع بالدولار والودائع باللبرة اللبنانية، مع اختلاف كبير في معاملتها.
بالنسبة للودائع باللبرة، كانت قيمتها على سعر صرف 1515 تصل إلى حوالي 40 مليار دولار. زادت هذه الودائع خلال العام الحالي بحوالي 1.4 تريليون ليرة، ويعود ذلك جزئياً إلى قيام بعض المصارف بتحويل الودائع النقدية (كاش) إلى ودائع مصرفية. يصل مجمل الودائع باللبرة اليوم إلى حوالي 74,000 مليار ليرة.
اقترح بعض النواب منح أصحاب الودائع باللبرة تعويضات مضاعفة سبع مرات، لكن ذلك سيزيد الكتلة النقدية بشكل كبير ويخل بالتوازن في سعر الصرف. أصدرت الحكومة مؤخراً التعميم 743 الذي يشجع على استخدام البطاقات النقدية (ديبت كارد) باللبرة من خلال السماح للمؤسسات باسترداد المبالغ كاشاً من المصرف، مما يحفز على استعمال هذه الأموال خارج الاقتصاد النقدي.

يتطلب الخروج من الأزمة الحالية تنفيذ إصلاحات شاملة تشمل:

الإصلاح المصرفي: تعديل قانون إصلاح المصارف وفصله عن قانون الفجوة المالية، مع إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتصفية المصارف غير القادرة على الاستمرار.
مكافحة تبييض الأموال: تفعيل القوانين الموجودة وتطبيقها على أرض الواقع، مع تعزيز دور هيئة التحقيق الخاصة والقضاء المالي.
تحديث البنية التشريعية: تعديل القوانين القديمة وتطوير إطار قانوني جاذب للاستثمارات.
فتح القطاعات للمنافسة: إنهاء الاحتكارات الحكومية في قطاعات الاتصالات والكهرباء والمياه، مع الحفاظ على دور رقابي للدولة.
معالجة ملف الودائع: إيجاد حل عادل ومستدام لأصحاب الودائع بالدولار واللبرة، مع مراعاة قدرة الاقتصاد على التحمل.

يبقى التحدي الأكبر في ربط هذه الإصلاحات الاقتصادية بالإصلاحات السياسية المطلوبة، حيث يشترط المجتمع الدولي تنفيذ إصلاحات سياسية وقضائية كشرط لتقديم الدعم المالي والاقتصادي. يتطلب ذلك إرادة سياسية حقيقية وتعاوناً بين مختلف الأطراف لتحقيق التغيير المنشود وإخراج لبنان من أزمته المتعددة الأوجه.

اضغط هنا لمشاهدة المقابلة على قناة Télé Liban