صندوق النقد الدولي: الحل الوحيد أم المشكلة الأكبر للبنان؟

يعاني لبنان منذ عام 2019 من أزمات متلاحقة انعكست سلباً على الوضع الاقتصادي والمالي، حيث تراجع الناتج المحلي من 56 مليار دولار إلى أقل من 20 مليار دولار، أي أن 60% من الاقتصاد اختفى. يشكل صندوق النقد الدولي اليوم الحل الوحيد لاستعادة ثقة الخارج، رغم أن الأجواء مع الوفود الزائرة لم تكن إيجابية في الزيارات الأخيرة.

تتمحور الإشكالية الأساسية حول معالجة الفجوة المالية وتوزيع الخسائر في القطاع المصرفي. قسمت الحكومة السابقة المشكلة إلى ثلاثة قوانين: قانون الرقابة على رأس المال، قانون معالجة أوضاع المصارف، وقانون توزيع الخسائر. نجحت الحكومة الحالية في تمرير القانون الأول، وأقرت القانون الثاني رغم ملاحظات صندوق النقد عليه، لكن المشكلة الكبرى تبقى في قانون الفجوة المالية الذي يمنع التوصل إلى اتفاق نهائي مع الصندوق.

يوجد خطان متناقضان في لبنان: الأول يطالب الدولة بتحمل جزء من الخسائر لأن المصارف أودعت أموالها في المصرف المركزي التابع للدولة، والثاني يرى أن المصارف يجب أن تتحمل الخسائر لأن المودعين وضعوا أموالهم لديها. يرى صندوق النقد الدولي أن هناك تراتبية للخسائر تبدأ بشطب رأس المال، ثم تنتقل إلى المودعين بنسب معينة.

تكمن المشكلة الأكبر في غياب القروض المصرفية التي تخنق الاقتصاد. تحتاج الشركات إلى التمويل لتشغيل معاملها وتوظيف العمال، لكن المصارف لا تستطيع إعطاء قروض بسبب الأزمة المستمرة. يقترح فصل دورة الودائع القديمة عن دورة القروض الجديدة بالدولار الفريش، مما يسمح للمصارف بالعمل وتحقيق أرباح تساهم في تسديد الودائع القديمة تدريجياً.

يتطلب نجاح هذا الحل ضمانات قانونية واضحة تمنع استخدام القروض الجديدة لتسديد شيكات قديمة، مع فصل واضح بين المحفظتين. تشمل الحلول المطروحة حالياً استخدام الذهب الذي بلغت قيمته 40 مليار دولار، إضافة إلى 10 مليارات دولار احتياطيات بالعملات الأجنبية، مع شطب 10 مليارات دولار من الودائع غير المشروعة.

تثير مسألة الودائع غير المشروعة إشكاليات كبيرة، خاصة فيما يتعلق بأموال المغتربين الذين كانوا يودعون أموالهم في لبنان دون التصريح عنها ضريبياً في بلدان إقامتهم. يهدد شطب هذه الودائع بقتل أي إمكانية لاستقطاب أموال المغتربين مستقبلاً، علماً أن هذه الأموال تشكل الأساس في تمويل الاقتصاد اللبناني.

تتضمن المعالجة أيضاً شطب الفوائد الفاحشة التي وصلت إلى 17% على الدولار، مع الإبقاء على فوائد معقولة بنسبة 2-3%. كما تطرح إشكالية تحويل الليرة إلى دولار خلال الأزمة، حيث حول بعض الأشخاص مدخراتهم بشكل قانوني فيما استغل آخرون الوضع للمتاجرة بالشيكات.

يبقى موضوع استخدام الذهب محل جدل واسع، إذ يرفض معظم النواب المس باحتياطي الذهب الذي يملكه المصرف المركزي ويبلغ حوالي 40 مليار دولار. تقضي الخطة المطروحة باستخدام الذهب والاحتياطيات لتغطية الفجوة البالغة 76 مليار دولار بعد احتساب ديون الدولة للمصرف المركزي والودائع غير المشروعة.

يثير هذا الحل مخاوف من فقدان الغطاء اللازم لاستقرار سعر صرف الليرة، خاصة أن كل المصارف المركزية حول العالم تعزز احتياطياتها من الذهب في ظل تراجع الثقة بالعملات الورقية. يقترح كبديل إنشاء مجلس نقد حقيقي يضمن استقرار سعر الصرف حتى لو تم التصرف بجزء من الذهب.

تستوجب معالجة الأزمة أيضاً استرداد المليارات التي حولها النافذون إلى الخارج في بداية الأزمة، حيث تشير التقديرات إلى أن المبالغ المحولة تتراوح بين 17 و78 مليار دولار. يجب على هؤلاء إعادة هذه الأموال كشرط لاستمرارهم في القطاع المصرفي، إذ أن هذه المليارات يمكن أن تشكل أساساً لإعادة إطلاق عجلة القروض.

يتطلب الاستقرار النقدي المستدام إصدار قانون جديد أو تعديل قانون النقد والتسليف بحيث يمنع الحكومة من الاقتراض من المصرف المركزي، ويمنع المصارف من الاقتراض منه، ويحظر طباعة الليرة بأكثر من الدولارات المتوفرة بسعر صرف ثابت. تشكل هذه الإصلاحات الثلاثة مجتمعة ما يسمى بمجلس النقد الذي يضمن استقراراً مستداماً لسعر الصرف مهما حدث من هزات أمنية أو عسكرية.

يبدي صندوق النقد الدولي انفتاحاً على فكرة مجلس النقد، معتبراً إياها قراراً سيادياً للحكومة اللبنانية، مما يشكل تطوراً إيجابياً في التعاطي مع الحكومة الحالية مقارنة بالحكومات السابقة. يرفع هذا الحل عن كاهل الحكومة مخاطر انهيار سعر الصرف عند إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو توزيع الخسائر.

تتطلب المفاوضات مع صندوق النقد معالجة ثلاث نقاط أساسية: استقرار الدين العام بما فيه الأزمة المصرفية وسندات اليوروبوند، والاستقرار النقدي الذي تحقق نسبياً بفضل سياسات المصرف المركزي، ومنظومة الحماية الاجتماعية. يجب أن تعالج سندات اليوروبوند بنفس الطريقة التي تعالج بها ودائع المدخرين، بحيث إذا تم شطب 70% من الودائع يجب شطب 70% من السندات.

حافظت الحكومة على استقرار نقدي نسبي بفضل ثلاثة قرارات: وقف القروض للدولة باللبناني والدولار، عدم طباعة ليرة غير مغطاة بالدولار على سعر صرف ثابت، ووقف القروض للمصارف. يبقى الخوف من الرجوع عن هذه القرارات في المستقبل، مما يستدعي فصل السياسة النقدية عن بقية الإصلاحات المالية عبر تشريع قانوني ملزم.

تشكل منظومة الحماية الاجتماعية تحدياً كبيراً، حيث ضربت الأزمة بشكل خاص العاملين في القطاع الخاص والمتقاعدين منه الذين لا يزال بعضهم يتقاضى 30 دولاراً شهرياً مقابل 300-400 دولار لمتقاعدي القطاع العام. تتطلب أي منظومة حماية اجتماعية فعالة إنعاش القطاع الخاص أولاً عبر ضمان استقرار سعر الصرف وتفكيك الاحتكارات.

يستوجب تفكيك احتكارات الكهرباء والاتصالات والطيران لتحفيز النمو الاقتصادي. يسمح تفكيك احتكار الكهرباء بتطوير الصناعة والزراعة التي تحتاج إلى طاقة رخيصة، فيما يتيح تفكيك احتكار الإنترنت نمو شركات التكنولوجيا. أما في قطاع الطيران، فيستقطب لبنان حالياً 2% فقط من السياح القادمين إلى الشرق الأوسط بسبب ارتفاع أسعار التذاكر الذي يصل إلى 600-700 دولار من أوروبا مقابل 100 دولار للوجهات المنافسة.

تظهر التجارب الإقليمية، خاصة في مصر، مشاكل كثيرة في سياسات صندوق النقد، لكنه يبقى البوابة الوحيدة لاستعادة ثقة المجتمع الدولي والمحلي بلبنان. يشترط الممولون العرب والمستثمرون الدوليون موافقة الصندوق كمعيار للثقة قبل ضخ الأموال أو الاستثمار، مما يجعل ختمه ضرورياً رغم التحفظات على سياساته.

تواجه المفاوضات عقبة التأجيل المستمر بسبب الخلافات حول توزيع الخسائر، مع احتمال استمرار هذا الوضع حتى بعد الانتخابات النيابية المقبلة. يرفض معظم الكتل النيابية الموافقة على الحلول المطروحة خوفاً من الخسارة الانتخابية، مما يؤخر معالجة الأزمة المصرفية ويطيل معاناة الاقتصاد والمواطنين. يبقى الحل الأمثل في فصل مسار إعادة القروض عن الجدل البيزنطي حول توزيع الخسائر، بحيث يعود الاقتصاد للعمل فيما تستمر المفاوضات حول الودائع القديمة، لأن عودة القروض تخدم المودعين والاقتصاد والمصارف في آن واحد.

اضغط هنا لمشاهدة المقابلة على موقع transparency news