تشير المؤشرات الراهنة في الاقتصاد اللبناني إلى أن لبنان لم يصل بعد إلى المسار المنشود رغم مرور قرابة ثمانية أشهر على تشكيل الحكومة الجديدة وانتخاب الرئيس. لم تتحول الوعود الإصلاحية ومكافحة الفساد التي أُطلقت عقب تشكيل الحكومة إلى واقع ملموس على المستويين الاقتصادي والمالي، مما أدى إلى عودة الإضرابات في القطاع العام وتعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
تتواصل المباحثات مع صندوق النقد الدولي في واشنطن منذ أكثر من أسبوع، لكن الأجواء السائدة تشير إلى تشاؤم كبير. تنقسم المشاكل مع الصندوق إلى شقين: تقني يتعلق بخلاف بين وزارة المالية ومصرف لبنان حول ديون بقيمة 16.5 مليار دولار أضافها الحاكم السابق رياض سلامة إلى ميزانية المصرف المركزي، وسياسي يتعلق بجدوى الاقتراض من الصندوق في ظل تحقيق لبنان فائضاً في ميزان المدفوعات وتوازناً في الموازنة.
يطرح السؤال الجوهري: لماذا يلجأ لبنان إلى صندوق النقد الدولي؟ عادةً ما تلجأ الدول إلى الصندوق عند وجود عجز في الموازنة أو ميزان المدفوعات، لكن لبنان يحقق حالياً فائضاً في ميزان المدفوعات بلغ سبعة مليارات دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام، منها مليار دولار فائض فعلي. كما تبدو الموازنة متوازنة، والدولة تمتلك احتياطيات بثمانية مليارات دولار في مصرف لبنان.
تتجاوز الديون المتراكمة على لبنان 80 مليار دولار، تشمل ديون اليوروبوندز بقيمة 45 مليار دولار قد تنخفض إلى 15 مليار بعد إعادة الهيكلة، وديون الكهرباء بمليارين دولار، والدين للعراق بمليار دولار، والديون للمصارف ومصرف لبنان، إضافة إلى قروض جديدة من البنك الدولي بمليار دولار. يشكل هذا الحجم من الديون ما يقارب ضعفين ونصف الناتج المحلي الإجمالي البالغ 31 مليار دولار، مما يثير تساؤلات حول استدامة المديونية وقدرة لبنان على السداد.
تبرز التجربة المصرية كمثال تحذيري، حيث تنفق مصر 50% من موازنتها على خدمة الدين، بينما يبلغ نصيب الفرد من الديون 23 ألف دولار سنوياً مقابل ألفين و900 دولار فقط للتعليم والصحة مجتمعين. يطرح هذا السؤال: هل يريد لبنان تكرار هذا النموذج؟
توجد بدائل داخلية للإصلاح لا تتطلب الاستدانة الخارجية، أبرزها الإصلاح النقدي عبر إنشاء مجلس نقد يلزم السلطة بطباعة العملة بقدر احتياطياتها من الدولار، مما يفرض الانضباط المالي ويوقف تمويل الهدر والفساد. تشير التقديرات إلى أن الهدر والفساد يكلفان الاقتصاد اللبناني خمسة مليارات دولار سنوياً، أي ما يعادل سُدس الناتج المحلي.
تتطلب عملية الإصلاح الشاملة معالجة قطاعات البنى التحتية الأساسية كالكهرباء والمياه والنقل، ومكافحة الفساد المستشري في الكسارات والمخالفات، وتطوير الموازنة لتعتمد معايير حديثة، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي لم تتجاوز مشروعاً واحداً في السنتين الماضيتين مقارنة بـ1400 مشروع في الإمارات.
يصطدم الإصلاح بعقبة المنظومة الحاكمة التي تتهرب تاريخياً من تحقيق الإصلاحات لأنها تعني إما إقصاءها عن الحكم والمنافع والصفقات، أو محاسبتها على الفترة الماضية. تستمر هذه المنظومة في ممارساتها رغم كل الضغوط، وتتجلى آثارها في ارتفاع تكلفة الكهرباء إلى 27 سنتاً للكيلووات رغم انخفاض أسعار النفط من 100 إلى 60 دولاراً للبرميل، مقارنة بخمسة سنتات في الأردن.
تعاني الصادرات اللبنانية من انغلاق الأسواق العربية، خاصة السعودية التي ما زالت تشترط إصلاحات جمركية لفتح أبوابها، إضافة إلى العراقيل في العبور عبر سوريا بكلفة تصل إلى 1500 دولار للحاوية. يضاف إلى ذلك الرسوم الجديدة المفروضة على المصدرين، مثل رسم 20 دولاراً على كل حاوية فارغة للتأكد من خلوها، مما يزيد الأعباء على المصدرين وبالتالي على المستهلكين.
تتعقد الصورة أكثر مع المطالب الدولية بحصرية السلاح وتطبيق القرارات الأممية كشرط لتقديم المساعدات. أشارت التصريحات الأخيرة من صندوق النقد إلى أن سوريا ستحصل على منح بينما لبنان سيحصل على قروض بفوائد، مما يعني مزيداً من الأعباء المستقبلية. قد يكون لبنان فقد دوره التقليدي في المنطقة لصالح كيانات أخرى في مجالات العبور والقطاع المصرفي والتكنولوجيا.
تطالب الجهات الدولية لبنان بتحقيق إصلاحات جذرية سياسية وتقنية واقتصادية، وإلا فسيستمر التراجع. وعد الوفد اللبناني بإنجاز قانون الفجوة المالية قبل نهاية العام، رغم أن الوفد نفسه غير متفق داخلياً. يظل هذا القانون إشكالياً كبيراً، حيث يضغط القطاع المصرفي لتحميل الدولة ومصرف لبنان الجزء الأكبر من الخسائر باعتبار الأزمة نظامية، بينما يرفض صندوق النقد هذا التوجه لأنه يهدد استدامة الدين العام.
تتزامن هذه التحديات مع اجتماعات حاكم مصرف لبنان مع وزارة الخزانة الأمريكية حول مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وهي قضية حساسة قد تضع لبنان على اللائحة السوداء إذا لم يحقق التقدم المطلوب. وضعت مجموعة العمل المالي أحد عشر شرطاً على لبنان، لكن التطبيق الفعلي ما زال بطيئاً رغم وجود لجنة أوروبية متخصصة ممولة من عدة دول لمساعدة لبنان.
خصص صندوق النقد العربي 120 مليون دولار لإعادة الإعمار، لكن هذا المبلغ ضئيل جداً مقارنة بتقديرات كلفة الحرب البالغة 14-15 مليار دولار، منها خمسة مليارات للأضرار السكنية. لا تكفي هذه المبالغ حتى لتأهيل المباني المتضررة، مما يتطلب حشداً دولياً أكبر، خاصة أن مناطق في الجنوب والبقاع والضاحية ما زالت متروكة منذ وقف إطلاق النار.
يعاني الاقتصاد من ضعف الليرة اللبنانية التي لم تعد تشكل سوى 2% من المبادلات والادخار، مما يستدعي إصلاحاً نقدياً جذرياً قد يشمل إصدار عملة جديدة أو الانتقال إلى نظام مجلس النقد. يتطلب هذا الإصلاح إعادة هيكلة القطاع العام ووقف تمويل الهدر والفساد، مما قد يحقق الإصلاح الاقتصادي المنشود.
تظهر موازنة 2025 و2026 مشاكل عميقة، حيث تعتمد على الضرائب بنسبة 80% من الإيرادات، نصفها ضرائب غير مباشرة يدفعها الفقير والغني بالتساوي. تأتي ضريبة القيمة المضافة في المقدمة بنسبة 50% من مجمل الضرائب، بينما تبقى الضرائب المباشرة ضئيلة. حققت الاتصالات 222 مليون دولار فقط عام 2023 رغم أنها تشكل “بترول لبنان”، بينما تعجز المؤسسات الإنتاجية الأخرى عن تحقيق الأرباح المطلوبة أو تحويلها للخزينة.
لم تناقش موازنة 2025 في البرلمان وصدرت بمرسوم رغم تقديمها ضمن المهل الدستورية، مما يحرم النواب من دورهم الرقابي الأساسي. لم تقدم الحكومة حسابات ختامية منذ 2004، أي منذ أكثر من عشرين عاماً، مما يمنع معرفة حجم الإنفاق ومصادره وأوجه الصرف. تتضمن الموازنة زيادات في الرسوم والضرائب دون المرور عبر المجلس النيابي، رغم أن الدستور ينص على أن الضرائب لا تُفرض إلا بقانون، مما يشكل انتهاكاً دستورياً خطيراً.
يقف لبنان اليوم أمام خيارات صعبة: إما الاستمرار في مسار الاستدانة الخارجية الذي قد يؤدي إلى كارثة مالية على غرار التجربة المصرية، أو الانتقال إلى إصلاحات داخلية جذرية تواجه مقاومة شرسة من المنظومة الحاكمة. يتطلب الخيار الثاني إرادة سياسية حقيقية لمكافحة الفساد وإصلاح القطاعات الإنتاجية وتحقيق العدالة الضريبية، وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل الواقع السياسي الراهن الذي يضع المصالح الفئوية فوق المصلحة الوطنية.