منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في خريف 2019 إلى اليوم، يعتمد المسؤولون اللبنانيون إستراتيجية “Kicking the Can Down the Road” كأسلوب وحيدٍ للحل، على حدّ ما يكرّر دائماً المستثمر في الأسواق المالية الناشئة صائب الزين. تقوم هذه الإستراتيجية ببساطة على التجاهل، أو تأجيل المشكلة في أحسن الأحوال. هكذا تعاملت المنظومة مع انهيار سعر الصرف، والتخلّف عن سداد الدين العام، وإعادة هيكلة المصارف، وإصلاح القطاع العام، والموازنات لسنوات ما بعد الانهيار. وعلى هذا المنوال، تتعامل أيضاً مع موازنة 2025 التي كان من المقرر أن يبدأ مجلس الوزراء درسها، أمس، قبل تطيير نصابها على وقع الاعتصامات.
“ركلُ” موازنة 2025 بعيداً عن الهمّ الاقتصادي كان الأكثر إيلاماً. ليس لكون الموازنة مثقلة بالضرائب والرسوم في ظلّ أعتى موجة تضخّم وانهيار للأجور فحسب، إنّما كذلك لإحباطها الآمال بتحقيق الإصلاحات. كلّ عام، كان المسؤولون يكررون أنّ موازنة العام المقبل ستحمل تغييرات جذرية على صعيد البنية الضريبية، وتخفيض النفقات التشغيلية، وتعزيز الحماية الاجتماعية، وتشجيع الاستثمارات الخارجية، وتحفيز النمو وتحقيق الأهداف التنموية. إلّا أنّ هذه الوعود الجوفاء كان يبدّدها عاماً بعد آخر “عجز” السلطة عن إجراء أبسط الإصلاحات. فتأتي النتيجة موازنات “تجترّ” قهر المواطنين وتدفعهم إلى حافّة اليأس.
موازنة العمل كالمعتاد
تشير قراءة في الأرقام لفريق الأبحاث الاقتصادية في “بلوم بنك” إلى أنّ موازنة 2025 صُمّمت “للحفاظ على العمل كالمعتاد”، أو “keep business as usual” بحسب التعبير المستخدم. وعليه، لم تهدف موازنة 2025 إلى إعادة تصميم المشهد الاقتصادي والمساعدة في إخراج البلد من أزمته الحالية.
إنّ نظرة سريعة إلى بنية النفقات والواردات تؤكّد بالأرقام النهج العام لموازنة 2025 الذي لم يشذّ ولو قليلاً عن مسار الموازنات للأعوام السابقة:
1- على صعيد بنية النفقات
انقسمت النفقات في الموازنة شقّين:
النفقات الجارية (التشغيلية) بقيمة تناهز 386 ألف مليار ليرة، وبنسبة 90.2 في المئة من مجمل النفقات.
النفقات الرأسمالية (الاستثمارية) بقيمة تناهز 41 ألف مليار ليرة، وتشكّل 9.8 من مجمل النفقات.
من أصل النفقات الجارية بقيمة 386 ألف مليار ليرة (4.3 مليار دولار)، تشكّل الرواتب والأجور والتقديمات الاجتماعية للقطاع العام حوالى 211.5 ألف مليار ليرة (2.36 مليار دولار)، أي ما نسبته 54.8 في المئة. ما يعني أنّه رغم كلّ الانخفاض في الرواتب والأجور المقيّمة على سعر صرف السوق، لا تزال هذه الكتلة تمتصّ أكثر من نصف النفقات التشغيلية. هذا الرقم الذي يعتبر هائلاً على المستويات كافة، يعود إلى تضخم عديد موظفي القطاع العام”، بحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني. و”العدد الكبير لا يعكس حاجة القطاع العام ولا مدى انتاجيته، إنّما مقدار التدخّل السياسي واستعمال إدارات الدولة للتوظيف المنفعي والانتخابي”. والمشكلة أنّ الدولة فشلت خلال سنوات الأزمة الطويلة في إعادة هيكلة القطاع العام على غرار ما فعل القطاع الخاص. إذ عمد الأخير إلى تخفيض أعداد موظّفيه، وإلغاء الأقسام غير المنتجة، وتعديل نفقاته مقارنة بإيراداته، واستطاع بعد بضع سنوات استعادة عافيته. في المقابل، تستمرّ الدولة في تعديل إيراداتها على مقدار نفقاتها، التي كما يبدو أن القسم الأكبر منها تشغيلي ويذهب رواتب وتقديمات إلى إدارات غير منتجة. وهذا ما يتبين بالتفصيل أدناه من خلال تراجع إيرادات الدولة من مؤسساتها العامة الكثيرة إلى أقلّ من مليار دولار سنوياً.
2- على صعيد بنية الواردات
لتغطية هذه النفقات يتعيّن تأمين إيرادات مالية موازية. وكما الموازنات السابقة، اعتمدت موازنة 2025 على الضرائب. فانقسمت الإيرادات شقّين:
الإيرادات الضريبية بقيمة تقارب 351 ألف مليار ليرة وتشكل 82 في المئة من مجمل الإيرادات. منها: 58.6 في المئة تأتي من:
إيرادات ضريبة القيمة المضافة (TVA)، و15.5 في المئة من إيرادات الجمارك، و13.2 في المئة من ضرائب الأرباح والدخل. وهذا ما يعني أنّ الضرائب غير المباشرة 74.1 في المئة من مجمل الإيرادات الضريبية، والضرائب المباشرة 13.2 في المئة فقط.
الإيرادات غير الضريبية بقيمة 77 ألف مليار ليرة تشكّل 18 في المئة من مجمل الإيرادات. واللافت أنّ الدولة التي تمتلك أكبر المرافق العامّة في لبنان من الكهرباء، والاتصالات، والكازينو، والريجي، والطيران، والمرافئ البرية والبحرية والجوية، وملايين الأمتار من العقارات، والشواطئ والانهار، والنقل وسكك الحديد…، لا تستطيع أن تؤمّن منها في العام أكثر من مليار دولار. وهذا ما يبيّن “عجز الدولة عن إدارة أصولها بشكل جدّي ومنطقي”، برأي مارديني. والعائدات المحقّقة منها تتطلّب 40 عاماً لتغطية عجز مؤسسة الكهرباء الذي فاق 40 مليار دولار.
كيف نبني موازنة إصلاحية؟
معروف أنّ بناء موازنة إصلاحية متوازنة يتطلّب التخلّص من النفقات التشغيلية الهائلة للدولة من خلال إعادة هيكلة القطاع العام من جهة، وإيجاد أفضل وسيلة لتعظيم المنفعة من مؤسساتها من جهة ثانية. وهذا ما يمكن تحقيقه من خلال التمييز بين القطاع بشكل عام، والشركة أو المؤسسة بشكل خاص”، من وجهة نظر مارديني. فهناك قطاع الكهرباء ومؤسسة كهرباء لبنان. قطاع الميسر وكازينو لبنان. قطاع الإنترنت وهيئة أوجيرو… والحلّ لا يكون إلّا بفتح القطاعات على المنافسة مع بقاء الشركات والمؤسسات العامة للدولة. وهذا ما يعزّز العائدات الضريبية التي يمكن تأمينها من الشركات في المرحلة الأولى، ويحفّز الاستثمارات نتيجة تحسّن جودة الخدمات وتدنّي أسعارها بسبب المنافسة. ومن ثم يمكن خصخصة الشركات والمؤسسات وتحسين إدارتها وتعزيز كفاءة إنتاجها.
الاعتماد على الاقتراض مجدداً
أغرب ما في الموازنة هو اعتمادها على الاقتراض لسدّ العجز المقدّر بـ 17.5 ألف مليار ليرة أو 200 مليون دولار تقريباً. مع العلم أنّه لم تُقدّم أية قروض محلّية في عام 2024 إذ كان من المفترض أن تكون الموازنة متوازنة. ومن المثير للاهتمام أيضًا أنّ الزيادات الضريبية وارتفاع تقييمات أسعار الصرف في عامي 2024 و 2025 قد أتت بثمارها من حيث ارتفاع الإيرادات. ويبدو أنّ هذا هو أحد أهمّ أغراض الموازنة”، بحسب ما خلُص إليه فريق الأبحاث الاقتصادية في “بلوم بنك”.
لا ينتج من إستراتيجية ركل العلبة إلى الطريق التي تتبعها الحكومة في سياساتها بشكل عام، وفي الموازنات بشكل خاص، إلّا بقاء الاقتصاد رازحاً تحت حمل النفقات الكبيرة والعجز عن زيادة الإيرادات.