نجح مجلس النقد في إعادة الاستقرار النقدي إلى بلاد كانت تعاني من واقع سياسي وأمني واجتماعي ومصرفي ومالي مشابه لما يمر به لبنان. ويعود ذلك لقدرة مجلس النقد على فصل سعر صرف الليرة عن الوضع الداخلي اللبناني ووقف تدهور الليرة خلال 30 يوما وتثبيت الدولار على سعر صرف متدنٍّ، ما يسمح بانتشال عدد كبير من الأسر من الفقر وتفادي توسيع رقعة الأزمة الاجتماعية. ومع ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، تتقلص مخاطر العملة (Currency Risk)، ما يشجع على عودة التدفقات المالية إلى لبنان كما حصل في جميع الدول التي أنشأت مجلس نقد دون أي استثناء. وترتفع الإيرادات الحكومية بسبب عودة هذه التدفقات، كما تنخفض نفقات خدمة الدين بسبب انخفاض معدلات التضخم والفائدة في لبنان. ويسمح الاستقرار النقدي وعودة التدفقات بإنعاش القطاعين الخاص والعام وبتحسين قدرتهما على سداد ديونهما للمصارف. ومع استرجاعها نسباً أعلى من تسليفاتها، تتمكن المصارف من سداد مبالغ أكبر لمودعي الدولار “القديم”. ومن هنا، سيكون إنشاء مجلس نقد في لبنان لمصلحة المودعين لأنه سيصغر خسائرهم ويعيد تكوين جزء من ودائعهم.
١- ما هو مجلس النقد وكيف يعمل؟
٢- كيف يمكن إنشاء مجلس نقد؟
٣- من أين نحصل على احتياطي لأنشاء مجلس النقد؟ وماذا سيكون سعر الصرف؟
٤- دواعي العجلة
٥- لماذا يتحتم إنشاء مجلس نقد قبل انتهاج أي إصلاح آخر؟
٦- هل يمنع مجلس النقد زيادة حجم الكتلة النقدية؟
٧- ما هو مصير احتياطي الدولار لمصرف لبنان؟
٨- كيف نؤمن النفقات العامة في ظل غياب القدرة على طباعة الليرة؟
٩- ما هو مصير المودعين في حال انشاء مجلس نقد؟
١٠- على أي سعر صرف ستسدد قروض الدولار القديمة عند تثبيت سعر الصرف الرسمي؟
١١- هل يعني مجلس النقد وقف الدعم؟ وكيف سيتم تمويل زيادة الرواتب والأجور؟
١- ما هو مجلس النقد وكيف يعمل؟
ليس مجلس النقد مجلسا يعينه السياسيون ويقرر السياسة النقدية للبلاد بشكل استنسابي (Discretionary Monetary Policy)، بل ينطبق هذا التعريف على المجلس المركزي لمصرف لبنان. ان مجلس النقد نظام نقدي يتبع قواعد صارمة في عملية إصداره للعملة النقدية (Rule-Based Monetary Arrangement)، تلغي كل معايير الاستنسابية، وأهم هذه القواعد هي الاحتفاظ باحتياطي (دولار مثلا) يساوي 100% أو أكثر بقليل من مطلوبات المصرف المركزي بالليرة اللبنانية. بهذه الطريقة تصبح الليرة بصلابة الدولار ونسخة طبق الأصل عنه وقابلةً للتحويل بالكامل وغب الطلب إلى دولار طازج على سعر صرف ثابت. عندها، يستعيد الناس ثقتهم بالليرة ويتوقف الهلع والهروب منها لأنهم ويعرفون أن باستطاعتهم تحويل كامل ليراتهم إلى دولارات ساعة شاؤوا، مع وجود حكومة أو بدونها ومع حاكم مصرف مركزي أو بدون، على سعر صرف ثابت لا يتزحزح باعتبار الدولارات موجودة تغطي 100% من قيمة الليرة. ومن هنا، نجحت مجالس النقد في البلدان التي تعاني من عدم استقرار سياسي وأمني (البوسنة والهرسك) أو فساد كبير (بلغاريا) لأنها فكت ارتباط العملة المحلية بالوضع الداخلي لهذه البلدان وربطتها حصرا بعملة الاحتياط.
٢- كيف يمكن إنشاء مجلس نقد؟
تكمن أفضل وسيلة لإنشاء مجلس نقد في تعديل قانون النقد والتسليف في مجلس النواب بشكل يوجب على المصرف المركزي اتباع قواعد مجلس النقد عند إصداره الليرة. ويمكن أيضاً إنشاء مجلس النقد عبر إحداث تغيير في السياسة النقدية، بحيث يلتزم المصرف المركزي باحترام قواعد مجلس النقد. ولكن التزام المصرف المركزي لن يكون كافيا وذا مصداقية ما لم يرد نصّاً في القانون لأن الناس سيتخوفون من سهولة الرجوع عن هذا الالتزام. من هنا، ننصح لبنان بأن يطلب من أهم خبير عالمي في مجالس النقد، البروفيسور ستيف هانكي وفريقه، مساعدة النواب على إعداد اقتراح قانون مجلس نقد يتلاءم مع سياق لبنان لتلافي تكرار الخطأ الذي ارتكبته الأرجنتين عند إنشاء مجلس نقدها المزعوم.
٣- من أين نحصل على احتياطي لأنشاء مجلس النقد؟ وماذا سيكون سعر الصرف؟
يغطي مجلس النقد مطلوبات الليرة للمركزي باحتياط العملات الأجنبية بنسبة 100%، لا مطلوبات الدولار، التي ستبقى مقيدة إلى حين اتفاق الحكومة اللبنانية مع الدائنين على إعادة الهيكلة. وتبلغ مطلوبات الليرة لمصرف لبنان اليوم نحو 84 تريليون ليرة تشمل العملة النقدية المتداولة وودائع المصارف بالليرة لدى مصرف لبنان. وبما أن المصرف المركزي ما زال يملك نحو 17 مليار دولار من احتياطي العملات الأجنبية، فإن هذا المبلغ يكفي لتغطية مطلوبات الليرة بنسبة 100%، دون المسّ بالذهب، على سعر صرف أدنى من المعمول به حاليا في السوق السوداء. أما بالنسبة لكيفية تحديد سعر الصرف المناسب، فننصح هنا أيضا بالاستفادة من خبرة هانكي وفريقه في هذا المجال، واتباع الطريقة التي انتهجها في بلغاريا التي أثبتت فعاليتها.
٤- دواعي العجلة
يعاني لبنان من عملة مضطربة للغاية، إذ فقدت الليرة أكثر من 80% من قيمتها مقارنةً بسعر الصرف الرسمي، كما يُقَدَّر معدّل التضخم بنحو 287% سنوياً، وهو بالتالي أعلى من معدلات زيمبابوي وسوريا والسودان. ومع استمرار انهيار الليرة والتضخم، يعم الفقر في لبنان لكون مداخيل معظم الشعب اللبناني بالليرة. ويوقف مجلس النقد تهور سعر صرف الليرة خلال 30 يوما ويثبت الدولار على سعر صرف متدنٍّ، ما يسمح بانتشال عدد كبير من الأسر من الفقر وتفادي توسيع رقعة الأزمة الاجتماعية.
٥- لماذا يتحتم إنشاء مجلس نقد قبل انتهاج أي إصلاح آخر؟
مع تدهور سعر صرف الليرة، أصبحت أسعار العقارات والمباني والشركات والمزارع والمصانع واليد العاملة منخفضة في لبنان لمن يملك دولارات طازجة. ومع هذا، لم يحفز تدني أسعار الأصول المحلية أصحاب الدولارات الطازجة على الاستثمار في هذه الأصول، لأنهم لا يثقون بسعر صرف الليرة الذي قد يتدهور أكثر، وبشكل كبير، وفي أية لحظة، ما يعني أن عائدات هذا الاستثمار ستذهب “فرق عملة”. وكذلك تمنع مخاطر العملة المرتفعة القطاع العام من تلزيم مشاريعه الحيوية. فعلى سبيل المثال، تمتنع الشركات الدولية والمحلية على حد سواء عن التقدم إلى أية مناقصة عمومية في لبنان، حتى عندما تتعلق المناقصة بنظام البناء والتشغيل والنقل Build Operate Transfer (BOT)، الذي لا يستدعي التمويل من قبل الدولة. وتحجم الشركات عن التقدم بعروض لأنها ببساطة غير قادرة على التكهن بسعر الصرف الذي ستدفع عليه نفقاتها مقارنة بسعر الصرف الذي ستجني عليه مداخيلها.
يضمن إنشاء مجلس نقد في لبنان ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، ما يؤدي تلقائيا إلى تقليص المخاطر الإجمالية المرتبطة بلبنان (Country Risk)، بحيث تبقى المخاطر السياسية (Political Risk) بينما تنخفض مخاطر سعر الصرف (Currency Risk) بشكل كبير، لتصبح أدنى من تلك التي كانت موجودة في لبنان قبيل الأزمة. ويشجع استقرار الليرة والأصول الرخيصة وتكاليف الإنتاج المنخفضة ورواد الأعمال على استئناف أعمالهم في لبنان، في قطاعات الخدمات التي كانت ذات تنافسية عالية قبل الأزمة وايضا في قطاعات إنتاجية أخرى مثل الصناعة والزراعة التي أصبحت تنافسية مع ارتفاع أسعار السلع المستوردة.
٦- هل يمنع مجلس النقد زيادة حجم الكتلة النقدية ؟
يرتفع حجم الكتلة النقدية بالليرة بعد انشاء مجلس النقد لأن انخفاض مخاطر سعر الصرف (Lower Risk) من جهة والمردود المرتفع (Higher Return) الذي توفره فرص الاستثمار بالأصول الرخيصة (Cheap Assets) من جهة أخرى يؤدي إلى عودة التدفقات المالية إلى لبنان. من هنا، يزداد حجم الكتلة النقدية في لبنان وحجم الاقتصاد في ظل وجود مجلس نقد، إلّا أنّ مصدر هذه الزيادة لا يكون عن طريق طباعة الليرة من العدم وخلق التضخم، بل يأتي عن طريق طباعة ليرة مغطاة بتدفقات رؤوس الأموال التي يجذبها انخفاض مخاطر العملة والمردود المرتفع الذي يقدمه. وستبقى معدلات الفائدة على الليرة أعلى من معدلات الفائدة في الولايات المتحدة بسبب المخاطر السياسية في لبنان (Risk Premium)، ولكنها ستكون أدنى من المعدلات التي عهدها لبنان في العقدين الأخيرين بفعل ما يتيحه مجلس النقد من استقرار عملة غير قابل للزعزعة. وتوفر أسعار الفائدة الأعلى نسبياً على الليرة فرصاً للمراجحة (Arbitrage) للعديد من صناديق الاستثمار الدولية التي تكسب رزقها من خلال الاستثمار في بلدان ذات مستويات مخاطر مرتفعة نسبيا نظراً إلى العائدات المرتفعة التي تقدمها. فتحول هذه الصناديق جزء من دولاراتها الى ليرة، للاستفادة من المردود الأعلى نسبيا لليرة التي أصبحت بصلابة الدولار. ويسهل القطاع المصرفي اللبناني بدوره تمويل القطاعين الخاص والعام بواسطة هذه التدفقات وتستعيد المصارف عملها الطبيعي وتقرض التدفقات المحولة الى ليرة إلى القطاع الخاص والدولة مستفيدة من مناخ أعمال أكثر استقراراً نسبياً يؤمنه مجلس النقد. وقد بدأت المصارف فعلا في التمييز بين الودائع القديمة بالدولار (أو ما يسمى اللولار) والتي ستستمر القيود عليها في بادئ الأمر، والتدفقات الجديدة (Fresh Dollars) التي لا تخضع اليوم أصلاً لأية قيود. من هنا يحصل رواد الأعمال الراغبين في الاستثمار في الأصول الرخيصة (مزارع ومصانع وخدمات) على التمويل اللازم بكلفة منخفضة، ويضمن مجلس النقد تحويل مداخيلهم على سعر صرف ثابت لا يتزحزح فتنطلق العجلة الاقتصادية في البلاد.
٧- ما هو مصير احتياطي الدولار لمصرف لبنان؟
في ظل نظام الصرف الحالي، نمت عقلية توزيع الخسائر الهدامة والمهيمنة حاليا على النقاشات وعقلية “تناتش” ال 17 مليار دولار المتبقية في الاحتياطي وكيفية توزيعها على المصارف وبينها وبين مستوردي المواد المدعومة. ومع إنشاء مجلس نقد، تنتفي الحاجة لهذه العقلية لأن احتياط المصرف المركزي لن يوزع او ينحدر بل سيرتفع بشكل مطّرد مع عودة التدفقات المالية إلى لبنان مدفوعة بارتفاع المردود وانخفاض المخاطر. من هنا ستستفيد جميع المصارف العاملة في لبنان كل حسب قدرته على جذب هذه التحويلات.
وإضافةً إلى ما تقدّم، ستفوق كمية الدولارات التي سيتم تحويلها إلى ليرة بأضعاف ما سيتم تحويله من قبل بعض اللبنانيين من ليرة إلى دولار. وهذا ما حصل في جميع الدول التي أنشأت مجلس نقد دون أي استثناء لأنه حوّل عملتها المضطربة إلى عملة ثابتة ومدعومة بآلية واضحة تؤكد القدرة على تحويل كامل مطلوبات الليرة في المصرف المركزي إلى عملة الاحتياط غب الطلب. عندها تصبح العملة التي لم يكن أحد يرغب في الاحتفاظ بها (High Velocity) عملة موثوقة لا يمانع الناس الاحتفاظ بها (Decrease in Velocity).
٨- كيف نؤمن النفقات العامة في ظل غياب القدرة على طباعة الليرة؟
كما ذكرنا أعلاه، سيستمر المصرف المركزي في طباعة الليرة في ظل وجود مجلس نقد، إلّا أنّ مصدر هذه الطباعة سيأتي من تحاويل رؤوس الأموال إلى لبنان التي يجذبها انخفاض مخاطر العملة والمردود المرتفع. ولكن في ظل نظام مجلس النقد، لا يحق للمصرف المركزي تمويل الحكومة مباشرة، وسيكون عليها الاستدانة من المصارف كما كانت تفعل قبل بداية الهندسات المالية في العام 2016.
وبناء على الأرقام الرسمية للموازنة العامة، تقدر نفقات الموظفين بحوالي 10 تريليون ليرة والنفقات الجارية بحوالي 3 تريليون ليرة مقارنة بمداخيل تبلغ حوالي 14 تريليون ليرة، ما يعني أن الحكومة اللبنانية تملك، حتى دون إنشاء مجلس نقد، مداخيل كافية لتغطية كلفة الموظفين والنفقات التشغيلية. ولكن بعد إضافة الخسائر السنوية لقطاع الكهرباء (الذي يحتسب كسلفة خزينة) وخدمة الدين، يتوقع معهد التمويل الدولي (IIF) أن يبلغ إجمالي عجز الموازنة العامة حوالي 9% من الناتج المحلي وهذا الرقم يتماشى مع الأرقام الفعلية للأشهر الثمانية الأولى من العام 2020.
أما في حال إنشاء مجلس نقد، فإننا نتوقع أن ترتفع الإيرادات الحكومية بسبب عودة تدفقات رأس المال وإطلاق العجلة الاقتصادية واستقرار سعر الصرف ما سيزيد من الفائض الاولي (قبل احتساب سلفة الكهرباء وخدمة الدين). كما نتوقع أن تنخفض خدمة الدين بسبب انخفاض معدلات الفائدة في لبنان، بشكل يسمح للفائض الاولي بتغطيته. فبمجرد استقرار العملة، ينخفض التضخم إلى مستوى يحاكي معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأميركية وتنخفض الفائدة إلى مستوى أدنى مما كانت عليه في لبنان في العقدين الماضيين. ومع ارتفاع مداخيل الدولة وانخفاض نفقاتها واستقرار الاقتصاد، نتوقع عودة التوازن للموازنة العامة في لبنان (قبل احتساب سلفة الكهرباء)، مثل ما حصل في بلغاريا بعد تأسيس مجلس نقدها في منتصف العام 1997. فقد انخفض عجز الموازنة العامة في بلغاريا من -12.7% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 1996 إلى -2.5% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 1997 قبل أن يتحول إلى فائض في العام 1998. اما موضوع اصلاح قطاع الكهرباء فسيتوجب على الحكومة معالجته بشكل منفصل او تمويله عبر الاستدانة.
وفي حال كان صانعو القرار يخشون من استمرار العجز وعدم كفاية التدفقات الخارجية (وهما فرضيتان تتناقضان مع المنطق والتجارب الأخرى لصناديق النقد حول العالم)، فيمكن طرح فكرة تمويل المرحلة الانتقالية على صندوق النقد الدولي وعلى الدول المانحة. وهنا ننصح بتعيين البروفيسور هانكي مستشارا للبرلمان اللبناني وتكليفه رسميا في التفاوض مع صندوق النقد الدولي على إنشاء مجالس نقد، لما يمتلك من خبرة في هذا المجال. كما يضم فريقه السيد جاك ديلاروزيير، مدير عام صندوق النقد الدولي من 1978 إلى 1987 وحاكم المصرف المركزي الفرنسي من 1987 إلى 1993 ورئيس البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية من 1993 إلى 1998، وهو شخصية مرموقة جدا. وعلى أساس نتائج مباحثات هانكي وفريقه، يمكن للنواب اتخاذ قرارهم بشأن انشاء مجلس النقد.
٩- ما هو مصير المودعين في حال انشاء مجلس نقد؟
في ظل النظام الحالي، وضعت المصارف اللبنانية قيوداً على سحوبات الدولار القديم وسمحت للمودع بسحب مبلغ شهري معين على سعر صرف المنصة المحدد ب3950 ليرة للدولار، أي بعد حسم (Haircut) حوالي % من قيمة السحب، مقارنة بسعر صرف الدولار في السوق السوداء حاليا. وقد أبقت المصارف على سعر صرف 1507 ليرة للدولار للمبالغ التي تفوق السقوف المحددة، أي بنسبة حسم (Haircut) تفوق ال 80%، علما أن نسبة الحسم ترتفع مع ارتفاع سعر صرف الدولار. وتختلف سقوف السحب من مصرف إلى آخر ومن مودع إلى آخر بحسب حجم الوديعة. وتقرر المصارف سقوفها بشكل استنسابي يرتبط برغبة المصرف بالتخلص من التزاماته بالدولار عبر تسحيبها للناس بالليرة من جهة، وبقدرة المصرف على تأمين هذه الليرات من جهة أخرى. وكذلك يمكن للمودع تسييل دولاراته القديمة عند تجار الشيكات بقيمة 33 سنتاً للدولار، أي بنسبة حسم 66%.
ويعود وجود هذه القيود والسقوف والحسومات إلى تعثر الدولة والقطاع الخاص عن سداد جزء من قروضهما إلى المصارف، ما جعل المصارف بدورها عاجزة عن سداد ودائع زبائنها. فقد أقرض النظام المصرفي اللبناني (المصارف التجارية + مصرف لبنان) 74 مليار دولار للدولة والقطاع الخاص على سعر الصرف الوسطي للعام 2020، أي 5000 ليرة للدولار (أو 65 مليار دولار وفقاً لسعر صرف 8500 ليرة للدولار). وفي ظل الظروف الحالية واقتصاد لبنان المنكمش، لا يمكن للحكومة ولا للقطاع الخاص سداد ديونهما للمصارف، ما يعني أن المصارف بدورها لا يمكنها سداد ودائع زبائنها وستستمر في تجميدها إلى ما لا نهاية.
ويسمح إنشاء مجلس النقد بتقصير المدة الزمنية للقيود وبرفع سقوف السحوبات وبتخفيض نسب الحسم جراء تحسن قدرة القطاع الخاص والدولة على سداد ديونهما للمصارف، ما يسمح للمصارف بسداد متوجباتها لزبائنها. فكما ذكرنا سابقا، يلغي مجلس النقد المخاطر المتعلقة بالليرة ويحقق الاستقرار الاقتصادي فتعود التدفقات المالية إلى لبنان بسبب انخفاض المخاطر وارتفاع المردود. ويسمح هذا الاستقرار وهذه التدفقات بإنعاش القطاعين الخاص والعام وبتحسين قدرتهما على سداد ديونهما للمصارف. ومع استرجاعها نسباً أعلى من تسليفاتها، ستتمكن المصارف من سداد مبالغ أكبر لمودعي الدولار القديم. من هذا المنطلق، سيكون إنشاء مجلس نقد في لبنان لمصلحة مودعي الدولار لأنه سيصغر خسائرهم ويعيد تكوين جزء من ودائعهم. أما القيمة السوقية للودائع القديمة بالدولار (قيمة اللولار عند تجار الشيكات) فسترتبط مباشرة بتقديرات السوق لحجم القروض التي سيستطيع القطاع المصرفي استردادها. وبمعنى آخر، فكلما تحسن الوضع الاقتصادي أكثر وتحسنت قدرة القطاع الخاص والدولة على سداد قروضها، ارتفعت قيمة اللولار في السوق.
١٠- على أي سعر صرف ستسدد قروض الدولار القديمة عند تثبيت سعر الصرف الرسمي؟
تعتبر هذه المسألة من المواضيع الدقيقة التي سيدرسها هانكي وفريقه بعناية في حال تم تعيينه مستشارا للبرلمان اللبناني لأن المبالغ التي سيسترجعها أصحاب ودائع الدولار القديم مرتبطة مباشرة بما سيسدد أصحاب القروض القديمة. فإذا تم الإبقاء على إمكانية سداد القروض القديمة على سعر ال 1515، فسيعني ذلك أن نسبة أكبر من المقترضين ستتمكن من السداد، ولكن قيمة المبالغ المسددة لن تكون كافية إلا لإعادة تكوين جزء صغير من ودائع الدولار القديم. أما إذا حصل سداد القروض القديمة على سعر الصرف الرسمي الجديد، فقد لا يتمكن جزء يسير من المقترضين من السداد. من هنا، تنبغي دراسة الموضوع بعناية لتأمين إعادة تكوين أكبر قدر من الودائع مع أقل قدر من تخلف المقترضين عن سداد ديونهم. وتجدر الإشارة إلى أن الاستقرار الذي سيخلقه مجلس النقد سيسهل هذه العملية لأنه يحسن من مداخيل أصحاب قروض الدولار القديم ويرفع من قدرتهم على السداد، ما يزيد نسبة ما يسترجعه أصحاب ودائع الدولار القديم.
١١- هل يعني مجلس النقد وقف الدعم؟ وكيف سيتم تمويل زيادة الرواتب والأجور؟
في ظل النظام النقدي الحالي، ويغطي مصرف لبنان الفرق بين سعر الصرف الرسمي البالغ 1515 ليرة للدولار وسعر السوق السوداء الذي ما ينفك يرتفع، فيرفع معه كلفة الدعم ويسرع من استنفاد الاحتياطي. وبما أن الاحتياطي الممكن استخدامه شارف على الانتهاء، فقد بات وقف الدعم مسألة وقت، ومن هنا الحديث عن ترشيده. وقد طرحت حكومة تصريف الأعمال فكرة الدعم على سعر صرف المنصة وتقليص عدد السلع المدعومة. وعرضت وزارة الاقتصاد بالتنسيق مع البنك الدولي خطة لدعم 80% من الشعب اللبناني بدل دعم السلع؛ كما يتم التداول باستبدال الدعم بزيادة الرواتب والأجور لتعويض الموظفين عن خسارة قدرتهم الشرائية. ولئن قررت السلطة الإبقاء على طريقة الدعم الحالي أو تعديلها حسب أي من السيناريوهات البديلة المطروحة، فسيتوجب على الحكومة إيجاد مصادر تمويل جديدة من خارج الاحتياطي، في ظل النظام النقدي الحالي.
ولا يبدِّل اعتماد لبنان نظام مجلس نقد من الحاجة إلى إيجاد مصادر تمويل جديدة من خارج الاحتياطي. ولكن مجلس النقد يثبت سعر صرف الدولار على مستويات أدنى من سعر السوق الحالي، ما يؤدي تلقائيا إلى تصغير تكلفة الدعم. ومع انحدار سعر الدولار، تنخفض أسعار السلع غير المدعومة. فإذا قررت السلطة خفض الدعم أو إنهاءه، فسيؤدي انخفاض أسعار السلع غير المدعومة إلى التعويض جزئياً عن ارتفاع أسعار السلع المدعومة.