نحو تعزيز المنافسة واللامركزية واعتماد أسعار السوق في قطاع الكهرباء

الكهرباء

عاني قطاع الكهرباء في سوريا أزمةً مزمنةً يتجلّى أثرها في تدنّي جودة الخدمة؛ إذ لا يحصل 90% من السكّان على كهرباء مستقرةٍ، ويبلغ متوسط ساعات التغذية الكهربائية في بعض المناطق ما بين 4 و8 ساعاتٍ يوميًا فحسب، الأمر الذي يؤثّر سلبًا على فاعلية القطاعين الإنتاجيّ والخدميّ. ويضاف إلى ذلك تراجع القدرة التشغيلية لمحطّات التوليد إلى نحو 32% من إجمالي طاقتها التصميمية البالغة 4000 ميغاواط نتيجة توقّف العديد من العنفات عن العمل إمّا بسبب غياب الصيانة وقطع الغيار وإمّا لتعرّض المحطّات للتدمير الكامل. كما لحق الضرر بشبكات النقل والتوزيع، إذ خرج 129 خطّ توترٍ عالٍ عن الخدمة ودمّرت 59 محطة تحويل، وتقدّر كلفة إعادة التأهيل بنحو 40 مليار دولار. ويعاني تمويل القطاع فجوةً كبيرةً تعزى إلى الدعم غير المستدام لتعرفة الكهرباء، ما أسهم في تفاقم عجز الموازنة العامّة ليبلغ نحو 12% في العام 2023. وتزداد آثار هذه المشكلة عمقًا مع ارتفاع الفاقد الكهربائيّ –بشقّيه الفنّيّ وغير الفنّيّ– والذي وصل في بعض السنوات الأخيرة إلى حوالي 40% من الإنتاج؛ وذلك جرّاء تقادم البنية التحتية وضعف الصيانة وتكرار سرقات التيّار الكهربائيّ.

وتعدّ هيكلية الدعم الحالية من أبرز مسبّبات الأزمة، إذ يقدّر الدعم اليوم بحولي 68% من فاتورة الكهرباء ما يكبد الخزينة خسائر مالية ضخمة ويعيق قدرتها على معالجة المشاكل التقنية للقطاع. وبسبب اعتماد تعرفة مدعومة وفقًا لشرائح الاستهلاك، تحصل شريحة واسعة من الأسر على كهرباء شبه مجّانية، ما يقلّل من الحوافز لترشيد الاستهلاك. أمّا على الصعيد الإداريّ، فيعاني القطاع ترهّلًا تنظيميًا وازدواجيةً وظيفيةً، مع وجود أكثر من 11,000 موظف في مركز الوزارة وآلافٍ آخرين في الهيئات والمديريّات التابعة لها وتمويل أجور العديد منهم من موازنات المحافظات، دون إدراجها ضمن التكاليف التشغيلية الفعلية للقطاع. وفي ظلّ غياب التمويل الخارجيّ حتى نهاية العام 2024، ظلّ الاعتماد قائمًا على الأدوات الماليّة المحليّة، مثل سندات الخزينة قصيرة الأجل التي بلغت قيمتها 4059 مليار ليرة سورية في العام 2023، فضلًا عن القروض الداخلية، في حين لم تسدّد بعض الجهات العامّة التزاماتها الماليّة، والتي وصلت في أحد الأعوام إلى 152.8 مليون دولار. كما أسهمت عقود الاحتكار في قطاعي النّفط والغاز في زيادة تعقيدات التمويل ونشوء شبكاتٍ من الوساطة غير الرسمية لتأمين مستلزمات التشغيل. وقد أوكل تنفيذ مشاريع استراتيجيةٍ لشركات روسية وايرانية دون رقابةٍ فنيّة أو ضمانات تنفيذ، ما أعاق استعادة القدرة التشغيليّة. ويتجلى غياب الشفافية بمقاربة الكهرباء على أنها جهة مستهلكة تتلقى تغطية للنفقات الجارية بدل ادراجها على أنها مؤسسة اقتصادية لها نفقات وإيرادات.

ومن بين الحلول المطروحة اليوم رفع العقوبات لتسهيل تمويل الصيانة وتأمين الوقود عبر قروض أو شراكات دولية. وكذلك يُطرَح خيار استعادة السيطرة على حقول النفط والغاز في شمال شرق البلاد لتأمين الوقود اللازم لتشغيل محطات التوليد، هذا بالإضافة إلى مقترحات أخرى تعول على الاستثمارات في القطاع، أو على ما قد يتيحه ربط الشبكة الكهربائية السورية بالخط العربي أو التركي أو أي خطوط إقليمية أخرى من مصادر تغذية إضافية. بيد أن هذه الحلول من شأنها أن تزيد العبء المالي

على الموازنة العامة نظرًا لاستمرار دعم الكهرباء وارتفاع تكاليف التأهيل وتقادم البنية التحتية. كما يواجه تنفيذ هذه الحلول صعوبات جمّة من ضمنها المخاطر المؤسسية المصاحبة للبنية الإدارية الحالية، إلى جانب شروط التمويل المعقدة وانعدام الضمانات السوقية والتشريعية للمستثمرين وضرورة معالجة الفروقات السعرية والتقنية بين الشبكات المختلفة.

وتقترح هذه الورقة الإلغاء الكامل لدعم الكهرباء تمهيدًا لتحرير الأسعار في وقت لاحق بعد فتح السوق على المنافسة بين مزودي الطاقة. كما تقترح فتح المجال أمام القطاع الخاص للاستثمار في توليد الكهرباء من مصادر تقليدية ومتجددة، ضمن إطار قانوني يجيز إنشاء شركات مساهمة، سواء أكانت محدودةً أم كبيرةً، لتوليد الطاقة. وتشمل المقترحات أيضًا إجراء إصلاح مؤسسي وإداري عبر منح الشركات المهتمة بالاستثمار في قطاع الكهرباء خيار الاستحواذ على ترخيص مركزي تصدره هيئة ناظمة يمكن أن يشمل نطاقه محافظة معينة أو كامل البلاد، أو الاستحصال على ترخيص محلي ينحصر نطاقه بالمحافظة. ويهدف إنشاء الهيئة الناظمة للكهرباء إلى جذب الاستثمارات وفتح السوق على المنافسة وإصدار تقارير أداء دورية وتوحيد معايير السلامة والكفاءة. وتدعو الورقة إلى تحديث شبكات النقل والتوزيع من خلال إسناد إدارتها إلى القطاع الخاص بموجب عقود شراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، مع إلزام الشركات بخفض الفاقد الفني بنسبة 10% سنويًا واستكمال تركيب العدادات الذكية لتحقيق تغطية شاملة (100%) خلال ثلاث سنوات وتشجيع الاستثمار في مراكز التحكم الذكي وشبكات الجهد المتوسط والمنخفض.

ومن شأن هذه الحزمة من الإصلاحات أن تؤمن مصادر إيرادات مستدامةً وتقلص العجز الناجم عن الدعم العشوائي وتضمن تحفيز القطاع الخاص على الانخراط في سوق الكهرباء عبر نموذج تنافسي، ما يسهم في تحسين الجباية وتخفيض الفاقد إلى أقل من 5% خلال خمس سنوات وتعزيز كفاءة استخدام الموارد وتخفيف الأعباء المالية والفنية عن كاهل الدولة ودعم جهود توفير الخدمات الأخرى اللازمة لإعادة إعمار البلاد.

سامر ضاحي – باحث في مبادرة سراج – المعهد اللبناني لدراسات السوق

حمل الملف لقراءة الورقة البحثية كاملة