اربطوا الأحزمة: “الكهرباء” تتأهّب لوثبة جديدة في الأسعار

الكهرباء

لم يكد “أنين” تأمين الوقود لمعامل الكهرباء يخفت خلف صخب “تبويس اللحى”، حتّى صدح وجع التقنين القاسي من جديد. فبعد أقلّ من عشرين يوماً على حلحلة حصول لبنان على شحنة حزيران من اتفاقية النّفط العراقي، تعرقل وصول شحنتي تموز وآب بسبب الفشل المتمادي في إدارة ملف الطاقة. الأمر الذي خفض انتاج الكهرباء إلى أقلّ من 200 ميغاواط من أصل مجمل الإنتاج المقدّر سابقاً بنحو 600 ميغاواط. وبمعزل عن أسباب التخلّف التي سنحاول سبر اغوارها في ما يلي، فإنّ المنظومة تطبّعت، على ما يبدو، بطباع المَدين السيّىء، الذي قيل فيه في الأمثال الشعبية: “ديّنو بيفرفش، تركو بيطنش، طالبو بيخرمش”. وهذا أسوأ بما لا يقاس على سمعة لبنان، حتّى من الانقطاع العام للكهرباء. 

ينقسم قطاع الكهرباء في لبنان، كما في كلّ البلدان، ثلاثة أقسام هي الإنتاج، والنّقل، والتوزيع. ويعاني القطاع مشكلات بنيوية في المراحل الثلاث تؤثّر إحداها في الأخرى، على الرّغم من محاولة المسؤولين حصر المشكلة بالإنتاج فقط. وقد سُوّق في الفترة الماضية على أوسع المستويات أنّ رفع تعرفة الكهرباء كفيل بتأمين حاجة المعامل من الفيول، والبدء برفع الإنتاج تدريجياً من أجل بلوغ ما بين 8 و 10 ساعات تغذية يومياً. إلّا أنّ هذا يحتاج إلى دعم حكومي محدود في البداية، يتلخّص “بتأمين مادّتي الفيول أويل والغاز أويل لتشغيل معامل انتاج مؤسسة كهرباء لبنان لمدة تراوح بين 5 و 6 أشهر”، بحسب خطّة الطوارئ الكهربائية. وذلك “للتمكّن من زيادة ساعات التغذية بالتيار الكهربائي، إلى أن يحين موعد البدء بجباية فواتير الكهرباء على التعرفة الجديدة”. 

القدرة المحدودة على الإنتاج

فعلاً، رفعت خطّة الطوارئ الاقتصادية تعرفة كيلوواط الكهرباء إلى 27 سنتاً لشطر الاستهلاك الذي يتخطّى 100 كيلوواط. ووضعت رسمين باهظين، الأول على العدّاد بقيمة 21 سنتاً لكلّ أمبير، والثاني على بدل التأهيل بقيمة 4.5 دولار. وذلك قبل أن تلغي الرسم الأخير في شباط 2024. وبدأت منذ تشرين الأول 2022 جباية الفواتير على أساس التعرفة الجديدة. وكان يفترض بالتعرفة الجديدة أن تؤمّن ما يكفي من وقود لإنتاج نحو 1200 ميغاواط، بحسب السردية العامّة للكهرباء، تنتج من معملي دير عمار والزهراني بقدرة 930 ميغاواطاً (465 لكلّ واحد منفرداً)، والمعامل ذات المحركات العكسية في الذوق والجية بقدرة تصل إلى 270 ميغاواطاً. ومع استثناء بقية المعامل الحرارية القديمة والملوِثة في الذوق والجية، وبعلبك، وصور، والحريشة بقدرة تصل إلى 1200 ميغاواط. 

الدوران في الحلقة المفرغة 

ما حصل هو أنّ الكهرباء لم تستطع إنتاج أكثر من 600 ميغاواط طوال الفترة الماضية، وتالياً لم تؤمّن المردود الكافي لشراء الفيول. وكلّ ما جمعته بالدولار من الفواتير على السعر الجديد منذ تشرين الأول 2022 لا يتجاوز 100 مليون دولار، لا يكفي لشراء أكثر من 200 ألف طن من المحروقات. وما دامت الحكومة لم تتوصّل إلى تسوية مع العراق لكيفية سداد المبالغ المتوجّبة من الصفقات الثلاث السابقة بقيمة تتجاوز 1.5 مليار دولار، فإنّ الإنتاج سيبقى متراجعاً والتحصيل متدنّياً، والدوران في الحلقة المفرغة سيستمرّ إلى ما لا نهاية. “فبدلاً من معالجة مشكلة المشكلات في القطاع المتمثّلة في الإهدار التقني وغير التقني في مرحلتي النقل والتوزيع وحتّى الإنتاج الذي كان يتجاوز 50 في المئة عند إقرار الخطة، رُفعت التعرفة ضعفي كلفة الإنتاج”، يقول المهندس المتابع لملفّ الكهرباء محمد بصبوص. “إذ حددت بـ 27 سنتاً مقابل كلفة إنتاج للكيلوواط ساعة تراوح بين 12 و14 سنتاً. وذلك من أجل تعويض الإهدار والفساد”. فكانت النتيجة تراجع الاستهلاك تراجعاً كبيراً، وإلغاء للاشتراكات، وتصغيراً للعدادات، وعجزاً من المؤسسات الحكومية، ولا سيما مؤسسات المياه، عن تسديد الفواتير، وتوقّفاً عن استعمال كهرباء الدولة من المعامل والمصانع الكبيرة، وانتقال قسم كبير من الأفراد وقطاع الأعمال إلى الطاقة الشمسية. ساعد على ذلك أيضاً عدم إفصاح مؤسسة الكهرباء عن برنامج توزيع الكهرباء في المناطق بشكل واضح وشفّاف، ووصول الكهرباء في منتصف الليل، أو بعد انتهاء أوقات العمل، وهذا ما يؤدّي إلى عدم الاستفادة منها. يضاف إلى هذه المشكلات تأخّر الفوترة قرابة العام في العديد من المناطق، وارتفاع السرقة إلى معدلات قياسية تتجاوز، بحسب بصبوص، “60 في المئة”. 

رفع التعرفة من جديد

إزاء هذا الواقع الفوضوي وغير المفهوم، أطلّت معضلة رفع التعرفة مرة جديدة برأسها من شبّاك تخلّف الدولة عن الالتزام بواجباتها بحسب خطّة طوارئ الكهرباء. “فبحسب المراسلات والاتفاقات الصريحة والجانبية التي سبقت ورافقت خطّة الطوارئ، يحقّ للكهرباء رفع سعر الكيلوواط / ساعة، 10 سنتات إضافية، ليصبح 37.6 سنت، إذا لم تلتزم الحكومة تسديد ثمن الفيول العراقي المقدّر بمليون طن خاماً وبقيمة 460 مليون دولار”، يقول غسان بيضون المدير العام السابق لمديرية الاستثمار في وزارة الطاقة والمياه، ومحلّل سياسات الشراكة مع القطاع الخاص في “المعهد اللبناني لدراسات السوق”.

إنّ تمنين “الكهرباء” المواطنين باقتصار التعرفة، التي تعدّ الأعلى عالمياً، على هذا الحدّ يتطلّب أيضاً تعاون مختلف الوزارات والإدارات والمؤسسات العسكرية والقضائية والمالية لإنجاح الخطّة. وتسديد الحكومة 80 مليون دولار بدل مستحقّات التشغيل والصيانة وأجر مقدّمي الخدمات، ووضع رسم عدّاد ثابت وهائل بغضّ النّظر عن توفّر الكهرباء، وإلّا فإنّ الكهرباء لن تكون مسؤولة عن عدم نجاح الخطة. 

يذكر أنْ الذي فرض رفع تعرفة الكهرباء في خطّة الطوارئ، هو نفسه الذي وضع الشروط القاسية والشبه مستحيلة لتأمين متطلّبات نجاح الخطة. كأنّ الغرض هو استمرار إيهام المواطنين بأنّ المشكلة هي التعرفة المنخفضة، وبرفعها تحلّ كلّ المشكلات. وهذا ما أثبت فشله سابقاً، وسيثبت فشله لاحقاً ما دامت الإصلاحات الهيكلية في قطاع الطاقة لم تتحقق، وفي مقدِّمها إنشاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء وفقاً للقانون 462/2002 الكفيل في ما بعد بتطبيق قانون “انتاج الطاقة المتجددة والموزعة” الذي يضمن نجاح تجارب الطاقة الشمسية الآخذة في التوسع والانتشار.  

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع الصفا