رغم إقرار قانون الشراء العام الجديد والبدء بتطبيقه في العام 2022، استمرت مظاهر الفساد في المشتريات العمومية وشبهات الرشوة، والاختلاس، واستغلال النفوذ، والتواطؤ بين العارضين أنفسهم أو بينهم وبين القطاع العام. وتتعدد أشكال التواطؤ وتشمل عروض التغطية، والامتناع عن تقديم العروض، وتناوب العروض، والتواطؤ مع الجهة الشارية. كما تبرز حالات تضارب المصالح بين القطاع العام وأحد العارضين من القطاع الخاص. ويشمل تضارب المصالح: الخدمات الاستشارية، والصلات الاقتصادية بين العارضين، وتقدم شركة واحدة بأكثر من عرض، وصلات القربى.
لذا نقترح تضمين النص القانوني عدم جواز اللجوء إلى الشراء العام لإقامة احتكار لشركة واحدة أو مجموعة قليلة من الشركات في القطاعات التي يجوز فيها تعدد مقدمي الخدمة في آن واحد. ولعل المثال الأبرز الذي يحضرنا في هذه الحالة هو دفتر شروط تلزيم مراكز المعاينة الميكانيكية الأربعة في الحدث والغازية وزغرتا وزحلة الذي أُطلِق في 31 آب 2023. فعلى الرغم من وضع وزارة الداخلية بالتعاون والتنسيق مع هيئة الشراء العام دفتر شروط تنافسيّاً يتلاءم مع متطلبات تحريك عجلة الاقتصاد وتشجيع مشاركة المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم وتوزيع المخاطر وتحقيق عائد أفضل للدولة وقدرة مراقبة وتنظيم أعلى، إلا أن هذا التلزيم أبقى المعاينة في نهاية المطاف بيد 4 شركات في أحسن الأحوال، تقدم الخدمة بالسعر نفسه من دون أي منافسة بينها. ويتمّ ذلك على عكس النماذج المعتمدة عالميا والأكثر فعالية التي ترخص لعدد كبير من الكراجات في كل منطقة وتسمح للمواطن باختيار الكراج الذي يلائمه لإجراء المعاينة الميكانيكية بدل تلزيم شركة معاينة واحدة في كل منطقة. ورغم الطابع الاحتكاري لكل مركز، لم تبصر المناقصة النور بعد نظرا لعدم تقدّم العارضين.
أما في القطاعات التي يصعب فيها وجود أكثر من مقدم واحد للخدمة في الآن نفسه، على غرار حالة تشغيل موقف السيارات في المطار، فينبغي التشدد في منع التواطؤ بين الجهتين الشارية (القطاع العام) والعارضة (القطاع الخاص) وبين الجهات العارضة بحد ذاتها. كما ينبغي الحد من قدرة الوزراء “اللامحدودة”، ولا سيما في وزارة الطاقة والمياه، ووزارة الاتصالات، ووزارة الأشغال، على تفصيل دفاتر شروط على قياس شركات محدودة وتقصير مهل التقديم للمناقصات إلى الحد الأدنى بحجة مداهمة الوقت.
مثلا، فاحت شبهات التواطؤ في مناقصة الفيول التي أطلقتها وزارة الطاقة في 20 تشرين الأول 2023 لاستبدال 125 طنّاً من النفط العراقي الثقيل بالديزل أويل. عندئذ تقدمت ثلاث شركات: Petraco وـ BBEnergy وـ ADNOC. وقد رُفِض طلب الأخيرة بسبب إرساله بالبريد. أما Petraco فقدمت عرض اعتبر تغطية – offre de couverture – لادعاء وجود المنافسة. عندها رست الصفقة تلقائيا على BBEnergy التي قدّمت عرضاً لا يمكن تحديد تنافسيته في ظل هذا الواقع. وعلى الرغم من رفض الجهات الرقابية للصفقة، أصرت وزارة الطاقة عليها وحاولت الالتفاف لقبول العرض بنقل الملف إلى مجلس الوزراء، مهددة بشبح انقطاع التيار مع نهاية العام بسبب نفاد الفيول من المعامل. وقد برز تقصير المهل جليّاً في مناقصة تلزيم البريد، والتي لم توفر وزارة الاتصالات طريقة لإرسائها على تحالف Merit invest – Colis Privé”” إلا واعتمدته. وقد أسقط ديوان المحاسبة التلزيم الذي ما زال معطلا حتى اليوم بسبب ” اختصار مهلة الإعلان وعدم وجود حاجة ملحة”. أما التحجج بعدم وجود عارضين فبرز أيضا في الاتصالات من خلال الجنوح إلى تلزيم عدة خدمات منها المحفظة الإلكترونية والرسائل النصية A2P وخدمة ott بالتراضي ودون مناقصات، بحجة عدم وجود شركات منافسة في هذا المجال.
ويبدو جلياً من خلال دفاتر الشروط التي تُطلَق مواءمة مصالح الجهة العارضة مع الشروط غير التنافسية التي تضعها الجهات الشارية كل مرة في دفتر الشروط لضمان فوز الجهة الوحيدة التي تتقدم. سنرى فيما يلي أبرز العوائق والحلول للانتهاء من هذه المشاكل التي تفوت المليارات على الخزينة وتحرم الاقتصاد من تقدم شركات منافسة وقوية تقدم خدمات بجودة عالية وكلفة متدنية، وبالتالي تخليص الاقتصاد المتهالك والتعب من البيئة الاحتكارية.
1- مسار قانون الشراء العام بين التواطؤ وتضارب المصالح
بعد حوالي سنتين من بدء نفاذ قانون الشراء العام في ٢٩-٠٧-٢٠٢٢، يُطرَح السؤال: هل تقلص حجم الفساد في الصفقات العمومية أو المشتريات العمومية؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، أي انخفاض في قيمة الصفقات المشبوهة وعددها، فهل الأمر ناجم عن انخفاض حجم الإنفاق العام على المشتريات العمومية نتيجة الأزمة الاقتصادية المالية التي تمر بها البلاد أم نتيجة الآليات الجديدة والضوابط التي أقرها قانون الشراء العام؟ لعلّ من السابق لأوانه الإجابة موضوعيا على ما تقدم في انتظار إحصاءات رسمية تصدر عن مراجعها في هذا الموضوع، ولكن لا بد لنا قبل صدور مثل هذه الإحصاءات للبناء عليها واستخلاص النتائج الرقمية من محاولة عرض تحليلي لواقع النصوص القائمة وعرض وصفي لكيفية تطبيقها في محاولة لمعرفة مسار الفساد في الصفقات العمومية في ظل أحكام قانون الشراء العام.
ومما لا شك فيه أن فساد الصفقات العمومية جزء أساسي من الفساد المالي القائم على استغلال الموقع الوظيفي في الشراء العام لتحقيق مصالح مالية خاصة، وهذا الأمر مجرّم في كل من قانون العقوبات وقانون الشراء العام في المادة ١١٢ منه. ولعلّ أهم مظاهر الفساد في المشتريات العمومية والممهد لتحقيق جرائمها من رشوة، واختلاس، واستغلال النفوذ هو التواطؤ بين العارضين أنفسهم أو بينهم وبين الإدارة.
2- أشكال التواطؤ بين العارضين
يكون هذا التواطؤ عبارة عن اتفاق خفي صريح أو ضمني بين كيانين أو أكثر بهدف خداع طرف ثالث أو حرمانه بشكل غير قانوني من مصالحه المشروعة أو الانخراط في سلوك محظور أو غير مُبرَّر من الوجهة القانونيَّة. ويُعتبَر التواطؤ في ميدان الشراء العام اتفاقاً بين عارضين أو أكثر للاحتيال على عمليات الشراء العام وتجاوز القواعد الإجرائية للحد من المنافسة أو الحصول على ميزة تفضيلية غير عادلة. وقد عرَّف قانون الشراء العام في الفقرة ٢٩ منه التواطؤ بأنه ترتيب يتم بين طرفين أو أكثر قبل تقديم العرض أو بعده لتحقيق غرض غير مشروع أو للإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص ومبدأ حرية المنافسة، بما في ذلك التأثير بشكل مُباشر أو غير مُباشر على تصرفات طرف آخر وتقسيم العقود بين العارضين أو تثبيت أسعار العروض أو التلاعُب بها بشكل غير تنافسي.
تتعدد أشكال التواطؤ بين العارضين المشاركين في إجراءات الشراء العام كما يلي:
عروض التغطية. يقدم العارضون أحيانا عروضا وهميّة تعرف بالعروض التكميليّة أو عروض المجاملة أو عروض التغطية (مثل صفقة شراء المحروقات). وفحوى هذه العروض تقديم عروض غير حقيقية وغير جدية لهدف إنشاء منافسة صورية كتقديم عرض بسعر أعلى من سعر العارض المتفق على فوزه بالصفقة أو تقديم عروض لم تكن في الأصل معدة لتُقبَل.
الامتناع عن تقديم العروض. يتجلى في اتفاق العارضين على الامتناع عن تقديم العروض أو سحبها مقابل أن يقوم الفائز المتفق عليه بتعويض العارض الممتنع عن التقدم إلى التنافس أو المنسحب منه. ويكون ذلك من خلال إعطائه حصة من الأرباح أو التعاقد معه من الباطن. ومن هنا تتجلى خطورة نص الفقرة الرابعة من المادة ٢٢ من قانون الشراء العام الذي أعطى العارض الحق في أن يُعدّل عرضه أو أن يسحبه قبل الموعد النهائي لتقديم العروض دون مصادرة ضمان عرضه. وعليه لا بد من تفعيل الرقابة للحد من المخاطر الناشئة عن هذا النص.
تناوب العروض. يتناوب أصحاب العروض المتواطئون في أن يكون أحدهم عارضا بأقل سعر وفق تسلسل محدد فيما بينهم. وتظهر هنا فكرة تقاسم السوق أو توزيع الصفقات، إذ يتفق المتنافسون على تقسيم الأسواق أو الصفقات وعدم التنافس في التلزيمات التي تجريها جهات شارية معينة أو في مناطق جغرافية محددة.
التواطؤ مع الجهة الشارية. ويحصل التواطؤ أيضا بين العارضين أو بين أحدهم وأحد العاملين لدى الجهة الشارية كما في حالة الكشف عن معلومات محددة في التقييم لعارض محدد أو تمديد مهلة تقديم العروض لصالح عارض محدد، أو تخفيض مدة الإعلان، أو تجزئة الصفقة، أو إعطاء ميزة تنافسيَّة غير عادلة أو السماح باستكمال مستندات لعارض محدد أو تسهيل الحصول على المستندات لهذا العارض.
3- تضارب المصالح بين العاملين في الشراء العام وأحد العارضين
تندرج ضمن العوامل التي تسهل حصول التواطؤ وقوع العاملين في الشراء العام أو أحد العارضين في وضعية تضارب المصالح. فقد أشار قانون الشراء العام في لبنان إلى تضارب المصالح حيث أوردت الفقرة 30 من المادة الثانية من قانون الشراء العام أن مفهوم تضارب المصالح يشمل أيّ موقف يكون فيه للموظف العام أو أحد العارضين أو غيرهم ممن يؤثّرون على نتيجة إجراء الشراء مصلحة خاصة، مالية أو اقتصادية أو غيرها، مباشرة أو غير مباشرة، تهدّد حياد واستقلالية إجراءات الشراء، موردة بعض الحالات التي يتحقق فيها تضارب المصالح ومنها:
أ. الخدمات الاستشارية. إذا كان العارض أو أحد العاملين لديه قد قام، بشكل مباشر أو غير مباشر، بنفسه أو بالاشتراك مع غيره، بتقديم خدمات استشارية لتحضير الدراسة أو المواصفات أو مستندات أخرى خاصة بالشراء، وكذلك عندما يكون قد عمل خلال السنتين السابقتين لدى مؤسسة قامت بهذه الخدمات، باستثناء الحالة التي يجري فيها الشراء على أساس مشروع متكامل (Turnkey project) يقوم فيه الملتزم بتنفيذ مراحل متعدّدة منه جزئياً أو كلياً وترى الجهة الشارية مصلحة عامة بتلزيمه بهذه الطريقة، وعندها يقتضي الإفصاح مسبقاً عن ذلك مع الأسباب التبريرية؛
ب. الصلات بين العارضين. إذا كانت تربط بين العارضين صلات معيَّنة كأن يكون لديهم شريك مشترك يسيطر على أعمالهم، أو لديهم الممثل القانوني نفسه في العرض؛
ج. التقدم بأكثر من عرض. إذا تقدم العارض بأكثر من عرض واحد خلال عملية الشراء، إلّا في حال إجازة ذلك في ملف التلزيم الخاص بالشراء؛
د. صلات القربى. في أيّ من الحالات المنصوص عليها في شرعة قواعد السلوك وفقاً للمادة 10 من هذا القانون، والتي يجب تضمينها وجوب تنحّي الموظفين عن العمل الذي يقومون به إذا كان له علاقة بالشراء، في حال كانت تربطهم صلات قربى حتى الدرجة الرابعة أو مصالح مشتركة واضحة مع العارض أو العاملين لديه أو الشركاء في الشركة العارضة، وكان يُخشى معها عدم اتّصاف عملهم بالحياد أو تحمل بشكل واضح على الشك بهذا الحياد.
أما اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد فقد عرَّفت تضارب المصالح على أنه أي وضع يُفضي إلى تداخل المصالح الشخصية للموظف العمومي مع وظائفه العمومية إلى حصول ذلك الشخص على منفعة غير مشروعة. ومهما يكن من أمر، فإنّ المطلوب من هيئة الشراء العام استكمال النص المتعلق بتحديد حالات تضارب المصالح عملا بأحكام المادة ١٠ من قانون الشراء العام بغية الحد من هذه الحالات، كما لا بد من تجريم عدم التصريح عن تضارب المصالح.
ومما لا شكَّ فيه أنَّ ثمة ظروفاً تسهل قيام التواطؤ بين العارضين، لعلّ أهمها انخفاض عدد الشركات المشاركة في إجراءات الشراء العام وعدم مشاركة منافسين جدد. ومن هنا تبرز أهمية فتح باب المنافسة للجميع عبر تطبيق سليم للمادة ١٢ من قانون الشراء العام، أي إعطاء مهل كافية للعارضين لتحضير عروضهم بالنظر إلى طبيعة الصفقة وتعقيداتها وصياغة دفاتر شروط واضحة ومحايدة وعلى صلة بموضوع الشراء حصرا التزاما بأحكام المادة ١٧ من قانون الشراء العام.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق