مواكبةً لأعمال الاستكشاف والحفر في المياه اللبنانية، كان لا بدّ من إطار قانوني لإنشاء صندوق سيادي لإدارة واستثمار الموارد البترولية الموعودة، والتي تُقدّر بمليارات الدولارات. في هذا السياق، أقرّت لجنة المال والموازنة “اقتراح قانون الصندوق السيادي اللبناني للنفط والغاز”، كـ”مؤسسة عامة ذات طابع خاص، لا تخضع للوصاية التقليدية التي كانت تُمارس من الحكومات والسلطة التنفيذية”.
يهدف الصندوق السيادي هذا إلى تأمين إدارة أموال الدولة من مواردها البترولية واستثمارها بطريقة رشيدة وسليمة وحفظها للأجيال المقبلة، وتنمية الاقتصاد، وتحويل الموارد البترولية الناضبة إلى أصول منتِجة تشكّل الضامن الثاني للاقتصاد بعد احتياطي الذهب.
ويكرّس اقتراح القانون في مضمونه استقلالية وحيادية إدارة الصندوق لجهة قواعد الشفافية والمساءلة والحوكمة الرشيدة التي تضمّنته، والتي تراعي المعايير الدولية. ويراعي المبادئ والقواعد المعتمدة عالمياً في إنشاء الصناديق السيادية والتجارب العملية لها.
كيف يضمن الصندوق استقلاليته المالية والإدارية؟
بهدف حماية الصندوق من أي عبث سياسي وسوء إدارة، تضمّن اقتراح القانون وجوب مراعاته مبادئ وقواعد أولاها أن يكون الصندوق السيادي اللبناني كمؤسسة عامة ذات طابع خاص، لا تخضع لقواعد الإدارة ولتسيير الأعمال والرقابة التي تخضع لها مؤسسات القطاع العام، بحيث يتمتع الصندوق بشخصية معنوية وبالاستقلالين المالي والإداري وبأوسع صلاحيات الاستقلالية عن تدخّل السلطة السياسية. ويُربط قانونياً بمجلس الوزراء بما يحفظ مبدأ وحدانية الدول.
وتُناط إدارة الصندوق بمجلس إدارة من أصحاب الكفاءات والاختصاصات المرتبطة بعمل الصندوق المالية والاقتصادية والقانونية الذين تتوفر فيهم خبرات محددة. إضافة إلى حصر تقييم كفاءة المرشحين والمؤهلين لرئاسة وعضوية مجلس الإدارة من قِبل مؤسسات توظيف دولية يستعين بها مجلس الخدمة المدنية، إلى جانب الالتزام بقواعد الحوكمة المعتمدة عالمياً لإدارة هذا النوع من الصناديق، لاسيما مبادئ سنتياغو.
وينصّ اقتراح القانون على إنشاء محفظتين لإدارة أموال الصندوق: واحدة للادخار والاستثمار، وواحدة للتنمية تودع فيها العائدات الضريبية من الموارد والأنشطة البترولية، وتحديد قواعد الإيداع والسحب لكل من المحفظتين. ويحظر الاقتراح استعمال أموال الصندوق في المحفظتين لتسديد ديون الدولة.
كما يربط الاقتراح وضع استراتيجية الاستثمار بمجلس الإدارة، وهي الخطة التي تحدَّد بموجبها آلية استثمار أموال الصندوق. وفي حين يخضع التفويض باستثمار أموال الصندوق وعائداته لموافقة كل من مجلس الوزراء ومجلس النواب، تخضع حسابات الصندوق وأداء إدارته لرقابة ديوان المحاسبة، وإلى تدقيق خارجي من قِبل مدقق حسابات مستقل، أو أكثر، معترَف به دولياً، على أن تُنشر التقارير المتعلقة بحسابات الصندوق واستثماراته بشفافية وعلنية.
في هذا الإطار، يورد رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان، وفي حديثه لـ”النهار”، أنّ إلى جانب جميع المبادئ والمعايير التقنية العالمية في اقتراح القانون، “قيّدنا من تأثير السلطة السياسية على هذا الصندوق، بحيث لن تستطيع التدخل بشيء سوى في ما يتعلق بتعيين مجلس الإدارة، والذي سيكون من خلال مواصفات تعتمدها شركة دولية خاصة”.
هل يشكّل الصندوق السيادي للنفط والغاز بادرة مكافحة فساد؟
كذلك، ومن باب الحدّ من استفادة الطبقة السياسية، تلزم محفظتا الادخار والتنمية بما لا يقلّ عن 75 في المئة من الاستثمارات الخارجية، “ما يعني أنّ الطبقة السياسية في لبنان ستكون بعيدة عن أي استفادة مالية من هذه الاستثمارات، و”ما بقى يطلعلهن شي”، أي أنّ اقتراح القانون هذا أغلق الباب على جميع الممارسات الخاطئة من سوء إدارة وهدر وفساد ومحاصصة، وكل ما مارسوه في العقود الماضية فلينسوه مع هذا الصندوق”، وفق كنعان.
وعن المعوّقات، يتحدّث كنعان عن احتمالية محاولة عدم تطبيق القانون، لكن “هذا الأمر مستبعَد بعد كل ما مرّ به لبنان لا سيما وأنّ الدولة اليوم تتوسّل الجهات الخارجية للاقتراض لسدّ نفقاتها وأصبحت ممارسة الفساد علناً أمر صعب”. والعالم سيتعامل مع الصندوق هذا على مستوى محافظ دولية كبرى تُقدَّر بمئات مليارات الدولارات، لذلك، “لن يستطيعوا المواربة مع هذه المحافظ، و”في تشريعنا هذا تجاوزنا هذه المعوّقات”. ويضيف كنعان أنّ “أهمّ ما في الأمر ألّا نشهد تراجعاً في الهيئة العامة لمجلس النواب في هذه المبادئ التي وضعناها في لجنة المال والموازنة، إذ إنّه من المفترض أنّ الجميع في لبنان بحاجة لحلول شبيهة باقتراح هذا القانون لاستقطاب استثمارات خارجية”.
ويؤكّد كنعان أنّ “عملنا على هذه المبادئ والمعايير لطمأنة اللبنانيين ولإثبات للجهات الدولية بأنّ لبنان جاد في الإصلاحات”.
وعن ربط تفويض الاستثمار بأموال الصندوق بموافقة مجلسي الوزراء والنواب، يشرح كنعان أنّ هذا الربط متعلّق بالاستراتيجية وليس باستثمار معيَّن أو مشروع، كما هي الحال مع الصناديق والمجالس الموجودة حالياً، وفي الوقت نفسه، لا يمكن الخروج نهائياً من أي رابط قانوني مع الجهة المالكة لهذه الموارد البترولية وهي الدولة اللبنانية. ولهذين المجلسين الحق في السياسة الكبرى في هذه الاستراتيجيات وهذا أمر طبيعي، لكن تفاصيل المشاريع وتنفيذها لا علاقة لهما فيها، وتحتكم حصراً إلى مجلس إدارة الصندوق.
صندوق سابق لأوانه؟
بناء على تجارب جميع الصناديق عالمياً، يحتاج أي صندوق سيادي إلى 3 شروط لينجح. وتبدأ الخبيرة في شؤون حوكمة الطاقة ديانا قيسي، في حديثها لـ”النهار”، بالشرط الأول، وهو “ألّا يكون سابقاً لأوانه، وهناك أمثلة عالمية في هذا الإطار لم تكن بيئتها حاضنة ولا جاهزة على مستويات عديدة، ما أدّى إلى فشلها”. فهنا، لا تضع الدولة دون أي تصوّر مسبَق وواقعي لما يحتاج البلد إليه والهدف من الصندوق، “فيولَد الصندوق ميتاً”. وهذا نوع من الصناديق شائع وبلدان عديدة فشلت فيه.
أمّا الشرط الثاني، فيوجب إنشاء صندوق بعد وضع خطة macro economic التي تحدّد السياسة المالية للبلد. فإنشاء صندوق دون معرفة السياسة المالية هذه وكيف يتعامل البلد مع ديونه وسقف دينه وخططه فيما يتعلق بالضرائب، أمر غير سليم، و”هذه العوامل جميعها غائبة في لبنان وهذا شيء خطير، ويؤثر مباشرة على إدارة الصندوق والتعامل مع المبالِغ فيه”. ففي هذه الحال، عندما يتعرّض البلد لأي انتكاسة مالية، سيلجأ مباشرة إلى الصندوق لسدّ عجزه.
والشرط الثالث هو الشفافية والمساءلة ووجود مؤسسات قوية. فوجود هذا الصندوق هو جزء من نظام البلد وهو مؤسسة عامة. وفي لبنان، البنى التحتية ركيكة، كذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات، وآلية التعاطي بين الوزراء ومجلس النواب غير شفافة، والقوانين تبقى حبراً على ورق، والسلطة الرقابية غير فعالة من قِبل مجلس النواب، ونعاني من تضارب مصالح. جميع هذه العوامل تتعارض مع الشفافية والحوكمة الرشيدة، بالتالي “بيئة لبنان حالياً غير صالحة لإنشاء صندوق سيادي فيها”، وفق قيسي.
“التكهّنات عن الإيرادات التي ستدخل إلى لبنان من النفط والغاز هو أمر سخيف”، بحسب قيسي، فحتى الآن لم نجد شيئاً من هذه الثروة. وعندما تنتهي أعمال الحفر والاستكشاف، سيستغرق الأمر وقتاً لمعرفة الكمية، وبموجب خطة الإنتاج حينها، يتبيّن حجم العائدات.
وبموجب المعايير الموضوعة عن الخبراء الدوليين في اقتراح قانون الصندوق السيادي، ترى قيسي أنّ هناك مبالغ طائلة ستدُفع لهم، وتسأل:”هل لبنان حالياً قادر على إنفاق هذه المبالغ في غياب أي إيرادات من النفط؟. ففي أحسن الأحوال لن تدخل هذه الإيرادات قبل خمس سنوات. وقد أثبتت التجارب العالمية أنّ الدول، وبعد أول اكتشاف تجاري لها، تحتاج إلى حوالي 20 عاماً لإنشاء صندوق سيادي، “فلماذا العجلة الآن؟”.
هل يسلم الصندوق من الفساد؟
إلى ذلك، يلتقي كلام قيسي مع كلام رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، الخبير الاقتصادي الدكتور باتريك مارديني، في ما يتعلّق بالاستعجال. إذ يرى في حديث لـ”النهار”، “استعجالاً في إنشاء صندوق سيادي، فلبنان لن يرى مداخيل من النفط والغاز قبل خمس سنوات على الأقلّ، بالتالي توقيت اقتراح القانون هذا يحمل بجزء كبير منه، شعبوية تهدف إلى إيهام اللبنانيين أنّه لا داعي للإصلاح”.
والحديث عن هذا الصندوق مبكِر، مع وجود دين عام كبير. فقبل إقراره وإنشائه، يوضح مارديني أنّه يجب إعادة هيكلة هذا الدين، ومعرفة حجم الثروة البترولية، وهل هي موجودة بكميات تجارية، والمداخيل المتوقعة منها.
وما يخيف من الصندوق السيادي في الوقت الراهن، هو العودة إلى التجاذبات السياسية والمحاصصة، “لذا علينا ترتيب بيتنا الداخلي قبل الحديث عن صندوق سيادي”.
وينشأ الصندوق السيادي لعزل آثار مداخيل النفط والغاز، منعاً لتأثيرها على الاقتصاد الكلي، كونها سلعاً معرضة لتقلبات في أسعارها عالمياً، ما يؤثر سلباً على مداخيل الدولة. لذا، يجب “عزل مداخيل الثروة النفطية من القطاع العام، فهو لا يؤتمن على إدارة هكذا ثروات”.
وبرأي مارديني، “الصندوق السيادي لا يحمي من الفساد المستشري، فنحن في لبنان لدينا مؤسسة عامة مستقلة عن سلطه الدولة، مثل مصرف لبنان، وقد أودعت المصارف لديها حوالي 80 مليار دولار، واختفى منها أكثر من 70 مليار دولار. وهذا مثال عن صندوق مستقلّ إلى حدّ ما من السلطة السياسية، وُضعت فيه الأموال، لكنّه لم يسمح بالمحافظة عليها”.
وأي صندوق أو مجلس أو هيئة منبثقة عن الدولة في لبنان يشوبها شبهات فساد، وفق مارديني. لذلك، ولضمان إدارة سليمة للثروة النفطية، يجب التفكير في بعض الأفكار خارج الصندوق. فهناك قوانين عالمياً تعطي حقوق ملكية الثروات الموجودة تحت الأرض للشعر وليس للدولة، لكن هكذا قوانين معقدة بالنسبة للوضع اللبناني كون أوّلاً النفط والغاز في البر وليس في البحر.
ويجد مارديني أنّنا أمام عقبة أولية في إقرار هذا القانون. أمّا العقبة الثانية، فهي في تعيين مجلس إدارته. فلبنان لطالما عانى في مسألة التعيينات في مجالس الإدارات في جميع الصناديق والهيئات التي أُقرت وفق قوانين.