معضلة الماليّة العامّة تطلّ برأسها مجدّداً من باب الرواتب: 70 تريليون ليرة كلفة الأجور في 2023 مقابل 29 تريليوناً إيرادات جمركية!

معضلة الماليّة العامّة تطلّ برأسها مجدّداً من باب الرواتب: 70 تريليون ليرة كلفة الأجور في 2023 مقابل 29 تريليوناً إيرادات جمركية!
لم تكد المالية العامة للدولة تستوعب الارتدادات الكارثية لسلسلة الرتب والرواتب، حتى جاءت صفعة انخفاض قيمة العملة الوطنية بنسب كبيرة بما أدّى الى تآكل الزيادات على نحو استوجب إقرار منح 4 رواتب إضافية على الرواتب الثلاثة المقرة سابقاً في عام 2022.
فبعدما طغت الأزمة النقدية في لبنان وتحديداً أزمة سعر الصرف على المشهد الاقتصادي العام خلال الأعوام الثلاثة الماضية، عادت معضلة مالية الدولة إلى الواجهة مجدّداً لتحتلّ المشهد الاقتصادي بعجوزاتها ومديونيتها وسوء إدارتها والفساد والاختلاسات المتحكمة في مفاصل القطاع العام. المعضلة اليوم أطلت من باب مستحقات وأجور موظفي القطاع العام، التي أقر مجلس النواب فتح اعتمادات إضافية لها، وإن سقط السجال الذي دار أخيراً حول شرعية ودستورية جلسة المجلس لفتح الاعتمادات اللازمة، أمام البعد الأخلاقي والإنساني لناحية إعطاء هؤلاء الموظفين الحد الأدنى من حقوقهم. ولكن الحديث عن التداعيات الاقتصادية والتضخمية لهذا الإجراء عاد مجدّداً في ظل الجمود السياسي والاقتصادي الراهن في البلاد، وهو ما يذكرنا مرة أخرى بتداعيات سلسلة الرتب والرواتب في عام 2017.
فقد أقر مجلس النواب اقتراحي قانونين متعلقين بتأمين اعتمادات مالية إضافية لتأمين الرواتب وبدل النقل لموظفي ومتقاعدي القطاع العام بقيمة تقارب 37 مليار ليرة ونحو 265 مليار ليرة لتغطية إعطاء حوافز مالية وبدل نقل لأساتذة الجامعة اللبنانية، بما قد يكفي لتغطية الرواتب حتى نهاية السنة.
وبعيداً عن مدى قانونية فتح الاعتمادات ومن أي موازنة ستُصرف بعدما نفدت موازنة عام 2022 واحتياطها، ليست خافيةً كتلة أجور القطاع العام نحو 19 تريليون ليرة في عام 2022، بعد إقرار راتبين إضافيين على أجور العاملين في القطاع العام في شهر تشرين الأول من العام الماضي، فيما بلغت الإيرادات الجمركية نحو 1.3 تريليون ليرة تقريباً، بعد رفع الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة في نهاية عام 2022. أما في عام 2023، فيقدّر الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو، أن تبلغ الإيرادات الجمركية نحو 29 تريليون ليرة، بعدما أقرت الحكومة رفع الدولار الجمركي على مراحل إلى 45 ألفاً ومن ثم إلى 60 ألفاً، وصولاً إلى 86 ألفاً في شهر أيار من السنة الجارية. ويتوقع قانصو أن تناهز كلفة الأجور 70 تريليون ليرة هذه السنة، وهي موزعة ما بين 3,100 مليار ليرة شهرياً في الأشهر الأربعة الأولى و7,100 مليار ليرة شهرياً في الأشهر الثمانية الأخيرة من السنة، وذلك بعد إقرار منح 4 رواتب إضافية على الرواتب الثلاثة المقرة سابقاً في عام 2022، بما يعني أننا قد نكون أمام فجوة مقدّرة بحدود 41 تريليون ليرة في عام 2023″.
ماذا لو عجزت الدولة عن توفير الإيرادات المالية اللازمة من ضرائب ورسوم أخرى لتمويل هذه الفجوة؟ يؤكد قانصو أن “هذا الأمر وارد حتى الساعة، وقد لا تملك الحكومة مصادر لتمويلها إلا اللجوء إلى مصرف لبنان لتغطية هذه الزيادة الهائلة في الرواتب والأجور، وذلك بسبب عدم قدرتها على الاستدانة من السوق نتيجة إعلانها عن التعثر في سداد الديون”.
أمام هذا الواقع، يؤكد قانصو أن “من شأن ذلك أن يؤدّي إلى إطلاق موجتين من التضخم في أسعار السلع والخدمات. الموجة الأولى قد تتأتى عن رفع الدولار الجمركي، إذ إن كل زيادة بقيمة 15 ألف ليرة على الدولار الجمركي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 5%، خصوصاً بالنسبة للسلع التي يصل الرسم الجمركي عليها إلى 35%. أما الموجة الثانية من التضخم فقد تكون ناجمة عن عملية خلق النقد المتوقعة أو طباعة الليرات إن لم تتأمن الإيرادات المالية الكافية”.
من هنا، يتوقع قانصو أن “يتجاوز حجم الفجوة المقدرة في نهاية عام 2023 كل التوقعات والتقديرات، إذ إن احتمال أن تتقلص مردودية عملية رفع الرسوم الجمركية واردة بسبب احتمال انكماش عملية الاستيراد نتيجة ارتفاع الرسوم والتخزين الذي حصل في عام 2022 في سياق عملية استباقية لرفع الدولار الجمركي، يضاف إلى ذلك توقعات بزيادة معدلات التهرب الضريبي المتوقعة وعمليات التهريب عبر الحدود البرية والبحرية. فضلاً عن إمكان انكماش الاستهلاك الداخلي نتيجة ارتفاع سعر الصرف إذا طال الفراغ الرئاسي مع شغور في حاكمية مصرف لبنان، أو حتى مع غياب الإصلاحات المرجوّة إذا توصّلنا إلى تسوية سياسية وتمّ انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، ما يعني استيراداً أقلّ وتالياً إيردات جمركية أقلّ، ومن شأن ذلك أن يسهم باتساع الفجوة بين كتلة الأجور والرسوم الجمركية”. وهذا الأمر يطرح وفق قانصو “علامات استفهام كبيرة حول قدرة الدولة على تسديد زيادات الأجور إذا بقيت الأوضاع السياسية والاقتصادية على ما هي عليه بعد انتهاء موسم الصيف وعودة المغتربين والسياح إلى بلادهم”.
وليست خافيةً نسب التضخم التي شهدها لبنان منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية، وتحديداً على الموجتين المتوقعتين على صعيد تضخم الأسعار. أولاً على جولة التضخم الناجمة عن خلق النقد، إذ ذكر قانصو أن “نسبة تضخم الأسعار التراكمية منذ نهاية عام 2019 حتى نهاية شهر نيسان المنصرم بلغت رقماً هستيرياً بحدود 3500%، فيما كان خلق النقد من خلال طباعة الليرة مستمراً طوال هذه الفترة وهو ما يتبيّن من خلال الكتلة النقدية بالليرة التي وصلت إلى 112 تريليون ليرة في نهاية شهر أيار (من 12 تريليون ليرة في تشرين الأول 2019)، لترتفع بحدود 26 تريليون ليرة بين شهري نيسان وأيار من السنة الجارية”. مع الإشارة الى أن مصرف لبنان استطاع من خلال إعادة تفعيل منصة صيرفة امتصاص نحو 15 تريليون ليرة في شهر آذار. ولم ينسَ قانصو الإشارة الى موجة التضخم الناجمة عن رفع الأجور والرسوم الجمركية، إذ بلغت أكثر من 120% منذ شهر تشرين الأول وحتى شهر نيسان الماضي، مشددا على ضرورة إعادة هيكلة القطاع العام من خلال ترشيده وتخفيز مردوديته وإنتاجيته لعلّ الدولة اللبنانية تستطيع أن تمتنع عن طباعة الليرة المسبب الرئيسي لتفلت سعر الصرف ونسب التضخم في لبنان التي تسهم بامتصاص كل مفاعيل الزيادات الممنوحة لموظفي القطاع العام، وتالياً تسهم بتآكل القدرة الشرائية لأكثر من 300 ألف عامل في القطاع العام وغيرهم من موظفي القطاع الخاص الذين لا يزالون يتقاضون جزءاً مهماً من رواتبهم بالليرة اللبنانية”.