في عدد خريف العام 2022 من تقرير مرصد الاقتصاد اللبناني المعنوَن بـ”حان الوقت لإعادة هيكلة القطاع المصرفي على نحو منصف”، شرح #البنك الدولي بأنّه بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على نشوب أسوأ أزمة اقتصادية ومالية في تاريخ لبنان، لا يزال الخلاف بين الأطراف المعنية الرئيسية بشأن كيفيّة توزيع الخسائر الماليّة يُمثّل العقبة الرئيسيّة أمام التوصّل إلى اتفاق بشأن خطة إصلاح شاملة لإنقاذ البلاد، معتبراً أنّ من المرجَّح أن يؤدّي الفراغ السياسي غير المسبوق إلى تعميق الأزمة.
وقد خلُص التقرير إلى جملة من التحليلات بناءً على مؤشّرات وأرقام، أبرزها أنّه “مع ارتفاع الخسائر المالية إلى ما فوق 72 مليار دولار أميركي، أي ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف إجمالي الناتج المحليّ في العام 2021، فإنّ تعويم القطاع المالي بات أمراً غير قابل للتطبيق، نظراً إلى عدم توافر الأموال العامة الكافية لذلك. فأصول الدولة لا تساوي سوى جزء بسيط من الخسائر المالية المقدَّرة، كما لا تزال الإيرادات المحتملة من النفط والغاز غير مؤكَّدة، ويحتاج تحقيقها إلى سنوات. ويفتقر تعويم القطاع المالي إلى الإنصاف كذلك.
في هذا الإطار، يرى رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، الدكتور باتريك مارديني، خلال حديثه لـ”النهار”، أنّه “مضى على الأزمة ثلاث سنوات لم تقم فيها الدولة بأيٍّ من الإصلاحات، وهو أمر في غاية الخطورة، إذ كان من المفترَض أن تكون الدولة قد قامت بالإصلاحات اللازمة منذ العام الأول وأن نكون حالياً نسير في التعافي”.
ويعلّق مارديني على أسباب عدم القدرة على تعويم القطاع المالي بأنّه في ما يتعلّق بالقطاع المصرفي، السياسة الحالية، التي اتّبعت في لبنان منذ بداية الأزمة وحتى الآن، هي تسكير ديون المصارف (ديونها تجاه زبائنها) عن طريق طبع الليرة، وبذلك كان هناك محاولة لتعويم أو إنقاذ للمصارف عن طريق التضخم. فالمصارف أعطت دولاراتها (وهي أموال المودعين) للقطاع العام (أي الحكومة ومصرف لبنان)، والقطاع العام غير قادر على إرجاع هذه الدولارات؛ لذلك يعطي المركزي المصارف الليرة بدلاً من الدولار لتغطية هذه الديون، وبالتالي، يسحب المودعين أموالهم بالليرة. والهدف من هذه السحوبات بالليرة هو الإبقاء على القطاع المصرفيّ وعدم الاعتراف بأنّ القطاع المصرفي تخلّف عن سداد ديونه للمودعين. لكن الشعب اللبناني يدفع ثمن هذا الإجراء عن طريق التضخّم وارتفاع سعر الصرف.
وعن مشكلة توزيع الخسائر الحائلة دون خطّة التعافي، يجيب مارديني بأنّه عندما تتكبّد المصارف خسائر جمّة عليها أن تتحمّل هذه المسؤولية أخلاقياً، وذلك يجري في جميع البلدان المتقدّمة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. فإذا ما مرّت مصارفها بأزمة، لا تسمح هذه الدول بتصفيتها، لأن سقوط المصارف يعني سقوط هذه الاقتصادات. لذلك تسعى هذه الدول إلى إنقاذ مصارفها عبر إقراضها الأموال ريثما تخرج من الأزمة، وتسدّد المصارف بدورها هذه الأموال للقطاع العام. لكن المشكلة في لبنان تتألّف من جزئين، وفق مارديني:
الجزء الأول هو أنّ الدولة اللبنانية مفلِسة وعاجزة عن مساعدة المصارف، وإنقاذ المصارف من قِبل الحكومة أمرٌ في غاية الصعوبة. أمّا الجزء الثاني فهو أنّ الحكومة مسؤولة عن خسائر المصارف، فهي التي أعطت أموال المودعين للقطاع العام، أي للحكومة ولمصرف لبنان، والمركزي بدوره أعطى أموال المصارف للحكومة على سعر صرف ثابت هو 1500 ليرة للدولار. بالتالي، تتحمّل الحكومة جزءاً كبيراً من مسؤوليّة الأزمة، ومعها المصارف.
والحديث عن توزيع الخسائر يؤجّل معالجة الأزمة، بحسب مارديني؛ فمن الأجدى بدلاً من الحديث عن توزيع الخسائر البحث في سبل إعادة إطلاق النمو وتأمين الاستقرار النقدي، وهما خطوتان قابلتان للتنفيذ من دون توزيع الخسائر. فإذا ما لُجم الدولار، وعادت الحركة الاقتصادية إلى طبيعتها، تتقلّص الخسائر تلقائياً. وعندما يكبر الاقتصاد اللبناني تزيد مداخيل الدولة، “لكن الإصرار على توزيع الخسائر أوّلًا يعود إلى إيلاء الدولة الهمّ الأكبر حالياً إلى المصارف والقطاع المصرفي، غير آبهة بمعاناة الشعب والمؤسّسات الخاصّة الذين دفعوا وحدهم ثمن الأزمة حتى الآن”.
وبعد أن وصف سابقاً البنك الدولي الأزمة اللبنانية بالـ”متعمَّدة”، وبأنّها من بين الأسوأ في التاريخ المعاصر، يُشير مارديني إلى أن التقرير الأخير يسير في سياق التقارير القاسية السابقة، في غياب أيّ مؤشّر إصلاحي. فلبنان يعيش تضخّماً مفرطاً، إذ كان الدولار في أوائل العام الجاري يبلغ نحو 20000 ليرة، وفي أواخره أصبح بحدود الـ40000 ليرة، ممّا يعني تضاعف السعر ومعه أسعار السّلع الأخرى.
وقد قيّم التقرير مدى حدّة الأزمة في لبنان من خلال مقارنتها بمجموعة مختارة من الدول الهشّة والمتأثرة بالصراعات. وقد خلُص إلى أنّ أداء الاقتصاد الكليّ في لبنان أسوأ من أداء مجموعة محدَّدة من الدول هي: زيمبابوي واليمن وفنزويلا والصومال، أو قد يضاهيها في أحسن الأحوال. فالتضخم المفرِط في لبنان يعود إلى سوء الإدارة، بحسب مارديني، حيث يستسهلون طبع الليرة بدلاً من القيام بالإصلاحات، ويموّلون النفقات العامة عن طريق طبع الليرة كذلك، ممّا يُدخلنا أكثر في التضخم المفرِط، والانهيار لا يزال مستمراً في غياب أيّ إجراء إصلاحيّ للحدّ منه.
هل أصبح لبنان أسوأ فنزويلا؟
“لسوء الحظ، فإنّ لبنان اليوم في وضع أسوأ من فنزويلا. ففيما كان لبنان ينافس سابقاً أكبر دول العالم بمختلف القطاعات، لا سيما القطاع المصرفي، بات اليوم يُقارَن بأحد أسوأ البلدان الهشّة حسب التصنيف العالمي”، بحسب رئيس الاتحاد الدولي لرجال وسيدات الأعمال اللبنانيين MIDEL وعميد كلية إدارة الأعمال في جامعة القديس يوسف USJ، الدكتور فؤاد زمكحل، في حديثه لـ”النهار”.
ولبنان يتنافس اليوم مع فنزويلا بأسعار اليوروبوندز، بالرغم من أن فنزويلا اليوم هي من أكبر البلدان المصدِّرة للغاز، لكنّها أفلست بسبب الفساد وسوء الإدارة. واليوروبوند اللبناني انخفض تحت سعر اليوروبوند الفنزويليّ، إضافة إلى أنّ لدى فنزويلا موارد طبيعية قادرة على الاستفادة منها. لذلك، برأي زمكحل، “فإنّ وضع لبنان حالياً أصعب من فنزويلا، لأنّ لا مدخول لدينا، والمدخول الوحيد الذي لدينا الآن هو ما ينتج من القطاع الخاصّ، والذي يتعرّض لضربة قاضية بما أقّرته موازنة 2022. أمّا فنزويلا فمهما يكن حالها، فهي تتمتّع بموارد غازية”.
ويتفهّم زمكحل تقرير البنك الدولي، فبعد ثلاث سنوات على هذه الأزمة رأى البنك الدولي أنّ الدولة لم تقم بأيّ إصلاح، ولم تتحمّل المسؤولية بتحمّل الخسائر. واليوم، لا يمكن للقطاع المصرفي أن ينهض ولا حتى أن يوضع أمام مسؤولياته إن لم تبدأ الدولة بتحمّل مسؤولياتها، خصوصاً أنّ هذا القطاع لا يمكنه الدخول في عمليات دمج وانخراط وإعادة هيكلة. ولكي ينهض القطاع المصرفي، يحتاج إلى أهمّ عامل، وهو عامل الثقة المفقودة حالياً، بل تنهار يوماً بعد يوم. وإذا ما وضعنا ملف الودائع على حدة، فإن لم يحظَ القطاع المصرفي بهذه الثقة، فلن يستقطب إيداعات جديدة؛ وإن لم يجذب هذه الإيداعات، فلن يستطيع الإقراض مجدّداً؛ ومن دون هذه العمليات لا يمكن لأيّ مصرف أن يستمرّ.
ويضيف زمكحل أنّ المصرف يعمل على تمويل الاستثمارات والمشاريع، التي تغيب حالياً عن لبنان. لذلك، جميع مكوّنات القطاع المصرفي في لبنان تنهار يوماً بعد يوم.
ويذكر التقرير بشكل متكرِّر مصطلحين أساسيين هما “الأزمة المتعمَّدة” و”غير المسبوقة”، ويدلّان على أنّ “لبنان لا يزال يحفر في النفق السوداوي نفسه في غياب أيّ إصلاح جدّي طلبه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي”، بحسب زمكحل، “وهكذا تقرير سلبيّ صادر عن البنك الدولي، ويدلّ على أنّنا لا نزال بعيدين كلّ البُعد عن خطة التعافي أو إعادة هيكلة القطاع المالي”.