على مرّ التاريخ، أبعدت الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على صعود وهبوط العملات الوطنية حكومات عدة، وهي ما زالت تهدّد حكومات أخرى. هذا في دول العالم؛ أما في لبنان فالأمر مختلف. نموذج فريد، ولكن لا يُحتذى به لأنه نموذج عن ظلم شعب ورّطته السلطات السياسية الحاكمة في استيعاب فسادها وطمعها اللامحدود.
من المعلوم أن انهيار العملة يتمّ في حالات عدّة، أهمّها:
1- عدم الاستقرار السياسي والأمني.
2- فشل السياسة الاقتصادية في لجم التضخّم.
3- اعتماد البلاد بشكل كبير على الاستيراد، من دون وجود صادرات تواكب الطلب على الدولار لتسديد قيمة الواردات.
4- انزلاق البلاد في مديونيّات خارجيّة، وعجز الحكومة عن الإيفاء بها.
5- خروج البلد مهزوماً من الحرب.
بسبب انطباق ما تقدّم بمعظمه على لبنان، نستخلص العبارة الآتية:”إن انهيار قيمة عملة ما هو تراجع في قوّتها الشرائية، وفقدان الثقة بها، مع الاتجاه إلى التعامل بالعملات الأجنبية، بيعاً وشراء وادّخاراً”.
بعض الخبراء يرى أنه لا يمكن اعتماد سياسة تحرير سعر الصرف في بلد مدولر كلبنان بنسبة تتعدّى الـ90 في المئة اليوم. وإذا كان البعض يحبّذ هذا التدبير، فإن البعض الآخر يذهب أبعد من ذلك في اعتماد الدولار كعملة للتداول في لبنان، خصوصاً أنه بلد استيراديّ بامتياز.
هل يمكن اعتماد #الدولرة في القطاعين العام والخاص في لبنان بعد دولرة الرواتب والأجور؟ ما هي الآليّة القابلة للتطبيق تقنياً واقتصادياً؟
رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني يقول لـ”النهار”: “بالتأكيد، يمكن دولرة الرواتب والأجور إذا تمـّت دولرة الأسعار والعقود. إنّها النقطة الأساسية في هذا الموضوع، حيث إنه لن يكون بمقدور الدولة أو الشركة أو المؤسّسة التسديد بالدولار، إذا كانت لا تقبض بهذه العملة. ستنتج عن ذلك مشكلات كثيرة، وستترتّب عليه أكلاف باهظة بغياب التوازن بين الإيرادات والنفقات.
أمّا بالنسبة لآلية التطبيق فلا بدّ أوّلاً من: السماح للشركات باعتماد التسعير على أساس الدولار أسوة بالقطاع السياحيّ. يجب تعميم هذه التجربة على باقي القطاعات. وعندما تستوفي الشركات بالدولار، يتوّجب عليها في المقابل تسديد الرواتب والأجور للعاملين فيها به. وبالتالي، يسري الأمر على عمليّة تسديد الضرائب والرسوم بالدولار ممّا يسمح للدولة بدولرة الرواتب التي تدفعها.
ثانياً: من المفترض تحويل عقود الشركات مع الموظفين إلى الدولار، كما العقود التي هي بين الشركات.
هنا، نكون قد وجدنا الحلّ للمداخيل والمصاريف فيما تبقى مشكلة الأموال الموجودة في الحسابات المصرفية بالليرة، والتي هي موجودة نقداً في السوق ولدى المواطنين.
ويأتي دور مصرف لبنان المفترض به أن يقوم بشراء هذه الأموال، سواء تلك التي هي قيد التداول بالليرة أو التي هي موجودة في حسابات المصارف، ليتمّ تلفها في ما بعد. من المعلوم أن هذا لا يكلّف سوى 3 أو 4 مليارات دولار”.
ويعتبر مارديني “أن المشكلة الوحيدة هي في السعر الذي ستتمّ الدولرة على أساسه”. ويلفت إلى “أهمية دور الخبراء التقنيّين الذين يتمّ تكليفهم بإعداد دراسات يحدّدون على أساسها السعر المعتمد؛ سعر السوق الحرّ، سعر منصّة صيرفة أم أيّ سعر…؟”.
ويقول: “للأسف، لقد تمّ التفريط بالعملة الوطنية مع كلّ الانهيار الذي نعيش فيه. فعن أيّ عملة وطنيّة نتحدّث عندما تخسر أكثر من 95% من قيمتها، خصوصاً إذا كان الهدف ما يزال خدمة الشعب اللبناني. اليوم، أصبحت هذه العملة وسيلة من أجل تفقير الشعب اللبناني، ولم تعد تقوم بدورها الوطنيّ المطلوب، ممّا يعني وجوب الخروج منها من الناحية الإخلاقية أقلّه.
هناك العديد من الدول ترك عملته الوطنية واعتمد عملة أخرى، كمثل دول الاتحاد الأوروبي؛ ففرنسا تخلّت عن الفرنك، وإيطاليا عن الليرة، وألمانيا عن المارك وغيرها…”.
يُعتبر اليورو من أكثر العملات تداولًا في جميع أنحاء العالم، وثاني أكبر احتياطي عملة بعد الدولار الأميركي، وتَستخدم جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عملة اليورو باستثناء الدنمارك والسويد والمملكة المتحدة، وتَستخدم مؤسّسات الاتحاد الأوروبي والدول غير الأعضاء عملة اليورو كعملة رسميّة لها مثل جمهورية كوسوفو، بعدما بدأ تداول اليورو في العالم في العام 1999.
يؤكّد المشرّع اللبناني على القوة الإبرائية للعملة الوطنية. فقانون النقد والتسليف يعتبر الليرة الوحدة النقديّة الرسميّة للبلاد، وهي ذات قوة إبرائيّة مُطلقة، والامتناع عن قبول السداد بها قد يشكّل فعلاً جرمياً وفق قانون العقوبات، حيث تنصّ المادة 319 على عقوبة الحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، كما يحق للشّخص المتضرّر أن يتقدّم بشكوى إلى الضابطة العدلية.
هل من حواجز قانونية فعلية تمنع اعتماد الدولار كعملة للتداول في لبنان؟
الرئيسة التنفيذية لمؤسّسة Juriscale الدكتورة سابين الكيك تعتبر “الموضوع صعباً، وليس اقتصادياً فحسب، سواء أكان باعتماد الدولار كعملة رئيسيّة للتداول أم عن طريق مجلس النقد. في الحالتين الموضوع سياسيّ بالدرجة الأولى، ويتعلّق بالدستور اللبناني وبالعقد الاجتماعي، لا سيّما أن النقد مرتبط بسيادة الدولة على أراضيها، وعلى اقتصادها، وعلى القدرة الشرائية للشعب. العملة تجسّد الوحدة السيادية للدولة؛ فالتنازل عن العملة يتبعه التنازل عن الامتياز المعطى لـ”المركزي”. وهو ليس إجراء تقنيّاً يتمّ بسهولة.
فالدولرة غير الرسمية أمرٌ، والدولرة الرسميّة والشاملة أو مجلس النقد، وهما وجهان لعملة واحدة، أمرٌ آخر. في الحالتين الموضوع مختلف. إذا طبّقنا الدولرة الشاملة أو مجلس النقد يعني أنّه لم يعد بمقدور الدولة إصدار العملة لتغطية نفقاتها، لأنّ طبع العملة يعتبر أداةً من أدوات الاستدانة التي تلجأ إليها الحكومات. هذا يعني أننا كدولة أصبحنا مرتبطين مباشرة باحتياطي عملة دولة أخرى، سواء أكانت العملة هي الدولار أم اليورو. وهذا يقتضي تكاملاً وتقاطعاً واستقراراً في العلاقات مع دولة أجنبية، فضلاً عن اتفاقيّات اقتصادية مستدامة معها ومطمئنة، تضمن ارتباط لبنان بهذه العملة. الموضوع ليس بهذه البساطة المطروحة. مثلاً، هناك شريحة من الشعب اللبناني تنتمي إلى حزب سياسيّ يجاهر بعدائه المباشر للكيان الأميركي. إذن، للموضوع أبعاد أعمق من مجرد العملة المنويّ اعتمادها، لأنّ هذه المقاربة تتعلّق بأساس النظام والكيان اللبناني. ومن المعلوم أن الدول التي تبنّت الدولار كعملة أو التي اعتمدت مجلس النقد، واجهت رفضاً من الكونغرس الأميركي بإبرام اتفاقية ترعى وتضمن احتياطيّات هذه العملات. وبهذا المعنى، يجب أن يكون واضحاً تماماً أن قرار الدولرة الرسمية لا يتعلّق فقط بالجانب اللبناني، وإنما يقتضي عقد تفاهمات مالية بالحدّ الأدنى مع الدولة أو الاتحاد صاحب حق الامتياز بإصدار العملة الأجنبية.
وهناك فرق شاسع بين الدولرة غير الرسميّة والدولرة الشاملة بشكل رسميّ، التي تستدعي أولاً: تعديلاً دستورياً، وثانياً: توافقاً بين المكوّنات اللبنانية”.
وتقول الكيك لـ”النهار”: “لا أعرف ما إذا كانت السلطة اليوم مع مجلس النواب يمثلّون كل اللبنانيين لأخذ القرار المناسب. هذا الطرح له خلفيّات وتترّتب عليه مفاعيل سياسية وهيكلية وليس طرحاً اقتصادياً ونقدياً صرفاً. لذا، يجب مقاربته ضمن حلّ متكامل، يرتبط بالنظام العام، بسيادة الدولة، خصوصاً أن أغلب التجارب فشلت عندما اعتمدت في دول ذات تكوين صعب وعلاقات دولية متشعبّة، الأمر الذي أدّى إلى تراجع وهجه عالمياً.
فمع الأزمة المالية العالمية، ومع الحرب الروسية – الأوكرانية، وتوّجه الدول إلى محاولة الانقلاب على معادلة البترودولار، ثمّة سؤال جوهريّ يُطرح في هذا السياق، وهو بأيّ عملة يجب ربط عملة البلاد، بعملة واحدة أم بسلّة عملات؟
إذا سرنا بهذه الخطوة، فهذا يعني أننا أصبحنا تحت هيمنة بلد آخر يتمتّع بالسيادة وبقرار طبع العملة. وحكماً لا يتمّ ذلك إلا بين دولتين يجمعهما ترابط تاريخي، اقتصادي ومالي قوي جداً”.
ووفق رأي الكيك “حتى على المستوى التقني والاقتصادي فليس هذا الحلّ هو السليم، حيث إنه يتطلّب احتياطيّات كبيرة بالعملات الأجنبية، فضلاً عن قطاع مصرفيّ موثوق به وقادر على جذب الرساميل الأجنبية.
والتكاليف الباهظة التي ستترّتب عليه بالإمكان توظيفها في الاقتصاد وجني مردود أكبر بكثير. ومن أهم الأمثلة، ما تعانيه اليوم منطقة اليورو من مشكلات كثيرة اقتصادية ونقديّة، ممّا أسفر عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الصعوبات التي واجهتها اليونان، بالرّغم من ارتباطها بعملة واحدة مع الاتحاد، وحيث التوافق أشمل والتكامل الاقتصادي والمالي والتجاري والسياسي أبرز. وقد تمّ إنشاء مصرف مركزيّ أوروبي، وبالرغم من ذلك الأمور ليست سهلة”.
بين الدولرة الشاملة بشكل رسميّ أو غير ذلك، تبقى العملة الوطنية في حال نزاع طويل ترفض السلطة النقدية والسياسية الاعتراف بها، وربّما لأنها لا تنشد الحلول بل تمتهن التخلّي عن المسؤوليّات.