تواجه الحكومة اللبنانية تحديات كبرى لإعادة لبنان إلى مسار التعافي الاقتصادي، ولا تكفي الإصلاحات وحدها دون استراتيجية شاملة لبناء “هوية اقتصادية” جديدة.
فالنموذج الاقتصادي القديم القائم على الخدمات لم يعد صالحاً، خاصة مع التغيرات الإقليمية مثل انهيار النظام السوري والممر الاقتصادي الذي تطرحه الولايات المتحدة.
وسط الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، تعود خطة “ماكينزي” إلى الواجهة كأحد أبرز الحلول المطروحة لإنقاذ الاقتصاد اللبناني، حيث وضِعت هذه الخطة عام 2018 بهدف رسم مسار جديد للنمو، لكنها بقيت حبيسة الأدراج بسبب غياب الإرادة السياسية. وبين من يعتبرها خريطة طريق جاهزة للخروج من الأزمة، ومن يرى أنها تعزز التخطيط المركزي غير الملائم، تتباين الآراء حول جدواها وإمكانية تفعيلها في ظل المعطيات الاقتصادية والسياسية الراهنة.
وفي ظل أمدها القصير، يمكن للحكومة اعتماد خطة “ماكينزي” القطاعية كأساس للإصلاح، مع تعديلات تناسب الواقع الحالي، تشمل الخطة ستة قطاعات رئيسية: الزراعة، التي تحتاج إلى تبني التكنولوجيا الحديثة وزراعة القنب الهندي الطبي؛ الصناعة، التي تتطلب تطوير الصناعات التحويلية لتعزيز التصدير؛ السياحة، التي يمكن إنعاشها عبر استهداف المغتربين وتطوير السياحة المتخصصة؛ اقتصاد المعرفة، الذي يحتاج إلى بنى تحتية رقمية وتشريعات داعمة؛ الخدمات المالية، التي يجب تحديثها بالتحول الرقمي؛ وأخيراً قطاع الانتشار، الذي يعزز استثمارات المغتربين.
إذا تم تنفيذ الخطة بفعالية، فقد تساهم في تحفيز النمو، خفض الدين العام، وخلق آلاف فرص العمل، ما يجعل تبنيها خياراً عملياً للحكومة بدلاً من بدء خطط جديدة من الصفر، حسب مراقبين.
“ماكينزي” والإرادة السياسية
في هذا السياق، أفاد الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان، في حديث لـ”العربي الجديد”، بأن خطة “ماكينزي” تأتي بعد الإصلاحات، حيث بدأت هذه الخطة منذ عام 2018 في أول حكومة تشكلت بعد انتخاب رئيس الجمهورية السابق ميشال عون. وعمليًا، في ذلك الوقت، لم تكن هناك حرب ولا أضرار قُدّرت بحوالي 14 مليار دولار، ولم تكن هناك فجوة مالية تفوق 76 مليار دولار، كما لم يكن هناك دائنون يملكون في ذمة الدولة 30 مليار دولار من سندات اليوروبوندز. لذا، إذا لم تقم الدولة بالإصلاحات، فلن يكون بالإمكان تطبيق خطة “ماكينزي”، حسب أبو سليمان.
وأضاف أن الحكومة اللبنانية تحتاج إلى “الختم الدولي”، وهو يتمثل في تطبيق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وليس مجرد الحصول على مبلغ 3 مليارات دولار.
أما في ما يتعلق بالإرادة السياسية في تحديد الخيارات، فقد أوضح أبو سليمان أن جميع الأطراف لا يملكون خيارًا حقيقيًا، إذ رأينا كيف تمت إعادة استقامة المؤسسات الدستورية عبر إملاءات خارجية، وبالتالي لا مجال للمراوغة، كما لم تعد القوى السياسية تملك رفاهية الوقت الذي كانت تمارسه سابقًا.
من أفضل الخطط
بدوره، صرّح الباحث والخبير الاقتصادي محمود جباعي، في حديث خاص مع “العربي الجديد”، بأن خطة “ماكينزي” تُعد من أفضل الخطط التي طُرحت للبنان، وهي الخطة الوحيدة التي تم إقرارها ضمن حكومة رئيس الوزراء السابق سعد الحريري. وقد أصبحت هذه الخطة رسمية، واليوم يمكن للحكومة الجديدة الاعتماد عليها كدليل واضح لحل الأزمات وتلبية احتياجات الاقتصاد اللبناني، نظرًا لشموليتها، حيث تتناول كيفية تحقيق نمو متوازن، وتوسيع حجم الاقتصاد، وتطوير الناتج المحلي في مختلف المجالات، كما أنها حددت لكل قطاع خطة خاصة لتطويره.
وأضاف أن إيجابيات هذه الخطة واضحة ومفيدة جدًا للاقتصاد اللبناني على مختلف الأصعدة، خاصة في زيادة الناتج المحلي، الذي وصل إلى 20 مليار دولار، ويمكن أن يرتفع إلى 50 مليارًا إذا تم تنفيذ الخطة على مراحل بشكل صحيح. كما أنها توفر رؤية عملية شاملة لحل الأزمة اللبنانية، وتجعل جميع الوزارات تعمل في الوقت نفسه على الحل، مما يمنحها قدرة عالية على تحسين الأوضاع الاقتصادية وزيادة الاستثمارات.
وأشار جباعي إلى أن الميزان التجاري في لبنان يعاني من عجز كبير يصل إلى أكثر من 12 مليار دولار سنويًا، نظرًا لعدم تصدير لبنان أي منتجات صناعية أو زراعية أو تكنولوجية بشكل كافٍ إلى الخارج، مع استمرار التركيز على القطاعين الخدماتي والسياحي، اللذين يتأثران بأي اهتزاز أمني. واعتماد هذه الخطة يمكن أن يعزز ميزان المدفوعات ويساعد على تحسين قيمة العملة الوطنية.
وأضاف جباعي أن المشكلة ليست في العقبات المالية، بل في القرار السياسي، إذ تتعين على الحكومة والمجلس النيابي دراسة الخطة بوضوح، وتعزيز قدرتها على التأقلم مع طبيعة الاقتصاد اللبناني، وتطويرها باستمرار وفقًا للتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية الحاصلة.
نهج غير مناسب
من جانبه، صرّح الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، في حديث مع “العربي الجديد”، بأن خطة “ماكينزي” تعتمد على التخطيط المركزي، وهو نهج غير مناسب، حيث توجّه المزارعين نحو زراعة منتجات معينة بدلاً من غيرها، وكذلك الصناعيين وغيرهم، في وقت إن هذه الأمور تتغير تبعًا لحركة السوق. فقد تكون أسعار بعض السلع مرتفعة في فترة معينة ثم تنخفض لاحقًا، بينما المزارع هو الأدرى بالمنتجات التي تحقق له الربح، وبالتالي، فإن هذا التخطيط ليس المنهجية الصحيحة، حسب مارديني.
وأوضح أن الأمر لا يقتصر على قطاع واحد فقط، بل يمتد إلى جميع القطاعات، مثل الزراعة، الصناعة، السياحة وغيرها. وأشار إلى أن المشكلة الأساسية في لبنان تكمن في تدخل القطاع العام في الاقتصاد، حيث تأتي خطة “ماكينزي” لتعزز هذا التدخل وتدفع البلاد نحو اقتصاد موجّه. وأضاف أن الخدمات التي تديرها الدولة، مثل الكهرباء، الاتصالات، والبنية التحتية، أصبحت سيئة ورديئة بسبب هذا التدخل، في حين أن لبنان ما زال قادرًا على النهوض بفضل ديناميكية القطاع الخاص.
وأشار مارديني إلى أن القطاع الخاص يتميز بمرونته وقدرته على الابتكار، مستشهدًا بقطاع السياحة، حيث يسعى المبادرون إلى ابتكار أفكار جديدة لجذب السياح عند توقعات لمواسم جيدة. في المقابل، فإن هذا التغيير المستمر في القطاع الخاص غائب عن خطة “ماكينزي”، التي قد تعيد لبنان إلى الوراء عشر سنوات، ما يجعلها أسوأ مما مر به لبنان من أزمات.
وتابع مارديني بالتأكيد أن دور الحكومة يجب أن يقتصر على تأمين البنية التحتية اللازمة وتوفير بيئة تنافسية تسمح للقطاع الخاص بالتعبير عن نفسه بحرية، بدلاً من فرض خطط مركزية توجّهه بشكل مباشر.