التحويلات المالية من المغتربين أصبحت نقمة على الاقتصاد اللبناني؟

التحويلات المالية من المغتربين أصبحت نقمة على الاقتصاد اللبناني؟

على الرغم من أن التحويلات المالية إلى الدول النامية تحديداً، تعد شرياناً اقتصادياً مهماً، إلا أنه وفي مراحل عديدة، تصبح هذه التحويلات أشبه بنقمة اقتصادية، خصوصاً عندما تبلغ قيمتها النقدية أكثر من 10 في المئة من الناتج المحلي. وهو ما سبق وتناولته مراكز دراسات أجنبية، وصحف عالمية، على غرار وول ستريت جورنال، التي وجدت في تقارير عديدة، أن التحويلات المالية باتت أداة تستخدم ضد الإصلاحات في المجتمع.

يعد لبنان نموذجاً للدول القائمة على أساس ما يرسله المغتربون إلى ذويهم، لكن نسبة الأموال المرسلة، وتحديداً خلال الأزمة الحالية باتت أداة مستخدمة من قبل الطبقة السياسية للحفاظ على مصالحها، وبالتالي تأخير إقرار الإصلاحات، والنهوض بالاقتصاد اللبناني.
الأرقام تتحدث
يجمع خبراء الاقتصاد على أن التحويلات المالية تعد مصدراً مهماً لمعيشة الملايين من الفقراء حول العالم، لكن هذه النعمة قد تتحول إلى نقمة، في حال زادت نسبة التحويلات عن 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، وهو ما لفت إليه الخبير كونيل فولنكامب، في معرض تعليقه على تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال. إذ يرى أن الأموال يمكن أن تقلل من حوافز العمل لمن يتلقون الأموال، ويمكنها أيضًا كبح مطالب الحكومة لإصلاح المشاكل الداخلية، ويمكن أن تتحول إلى مسارات بعيدة عن التنمية الاقتصادية.

في لبنان، تبلغ نسبة التحويلات المالية أضعاف ما هو متفق عليه من قبل خبراء الاقتصاد. يشير تقرير صادر عن الأمم المتحدة في 2023، إلى أن التحويلات النقدية إلى لبنان بلغت نحو 37.8 في المئة، من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2022. وبمعنى أدق، فإن نسبة التحويلات وصلت إلى مايقارب من 7 مليارات دولار على اعتبار أن الناتج الإجمالي حينها بلغ 21 مليار.

ولم يخف حينها التقرير، بأن هذه هذه النسبة الأعلى المسجلة في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويحتل لبنان المرتبة الثالثة من حيث القيم المطلقة للتحويلات في قائمة البلدان المتلقية للتحويلات النقدية، بعد المغرب ومصر. في المقابل، تبلغ تكلفة التحويلات النقدية في لبنان نسبة وسطية تصل إلى 11 في المئة، وهو ما يفوق المتوسط العالمي البالغ 6 في المئة، كما يفوق النسب المسجلة في البلدان المجاورة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
طبيعة البلد
يقول الخبير الاقتصادي باتريك مارديني لـ”المدن: “إن التحويلات المالية ارتبطت بلبنان بسبب طبيعة البلد ووجود عدد من المغتربين بالخارج، نتيجة الهجرة الأولى والثانية التي حصلت في لبنان. وبالتالي، بات إرسال الأموال أمراً طبيعياً لديمومة الحياة اليومية”. ويضيف “في الأزمة الاقتصادية الأخيرة، برزت التحويلات كمنقذ للعائلات، خصوصاً وأن الكثير من الشباب هاجر إلى الخارج قبيل الأزمة وخلالها. وبالتالي، ما زالوا متصلين بذويهم بشكل مباشر، على عكس قدامى المهاجرين الذي قد تنقطع صلاتهم بلبنان”.

ووفق مارديني، لعبت عوامل عديدة دوراً في زيادة نسبة التحويلات، من ضمنها انخفاض قيمة العملة، وبالتالي بات من السهل على المغترب إرسال 200 دولار أو 300 دولار بدلاً من إرسال 1000 دولار.

يعتقد مارديني، بأن التحويلات المالية ستحافظ على وتيرتها المرتفعة، طالما هناك حاجة لهذه الأموال، في ظل غياب أي خطط واضحة أو حقيقية للنهوض بالاقتصاد اللبناني.
كيف تصرف التحويلات؟
تعيش فاطمة خليل وابنتها على التحويلات المالية المرسلة من ابنها في الخارج، تحتاج إلى ما يقارب 400 دولار لتسديد إيجار بيتها (150 دولاراً) والإنفاق على الكهرباء والماء، وشراء الطعام والأدوية.

تقول لـ”المدن”: “قبل العام 2019، كانت قيمة الأموال المرسلة تتراوح ما بين 700 و800 دولار، ولكن بعد انهيار قيمة العملة، تبدلت القيمة المالية للإنفاق، وأصبحت قادرة على العيش بنصف المبلغ للحصول على أساسيات الحياة”. وتضيف “على سبيل المثال، لم يعد ايجار البيت 300 دولار أي 450 ألف ليرة، بل أصبح أقل من 100 دولار وارتفع مع بداية العام ليصبح 150 دولاراً، والأمر نفسه ينطبق على الكثير من الأساسيات المعيشية”.

صحيح أن الأزمة الاقتصادية لم تؤد إلى انخفاض في نسبة تحويل الأموال، بل حافظت على وتيرتها ما بين 6 و 8 مليارات دولار سنوياً، لكن آليات صرف هذه التحويلات شهدت تغيراً جذرياً ينعكس بطبيعة الحال على التنمية في البلاد، وصرفت التحويلات على النفقات الأساسية اليومية من مأكل ومشرب، وهو ما قد يفسر إلى حد كبير استمرار ديمومة الحياة رغم انهيار الليرة اللبنانية، وغياب فرص العمل أمام المواطنين.

ففي الفترة التي سبقت الأزمة، كانت الأسر تستخدم التحويلات للاستثمار في بناء رأس المال البشري، كالصحة والتعليم أو الاستثمار العقاري..إلخ، لكن الأزمة غيرت مجرى هذا الإنفاق، بدليل تدني مستوى الخدمات الصحية، وإقفال ودمج العديد من المستشفيات والمستوصفات الطبية، ناهيك عن غياب الكادر العلمي المتخصص بسبب الهجرة. أما فيما يخص القطاع التعليمي، فتظهر البيانات إلى أن الشباب اللبناني يسعى إلى الهجرة وتحديداً إلى أوروبا بهدف الحصول على التعليم الجامعي، بعد تردي الخدمات التعليمية. أضف إلى ذلك، يظهر استطلاع الباروميتر العربي بين عام 2020 وربيع عام 2021، أن حوالى نصف المواطنين (48 في المئة) يسعون إلى مغادرة وطنهم للحصول على فرص أفضل في الخارج.

ويظهر الواقع، إلى أن جل التحويلات المالية صرفت للحصول على شبكات الأمان الاجتماعي. ففي ظل غياب نظام حماية اجتماعية متطور وشامل، باتت هذه التحويلات تستخدم للتعويض- وإن بشكل جزئي- عن الخسائر في القيمة الحقيقية للدخل والناتجة عن تدني قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع المدن