منذ 4 سنوات، وكرة الإنهيار الإقتصادي تتدحرج أكثر فأكثر. والمعنيون بالإنقاذ والمسؤولون عن ترتيب الظروف الدولية، والحلول الممكنة للخروج من النفق بأقل خسائر، غائبون عن أي نقاش أو تنسيق جدي، لا بل يتراشقون التهم بالتقصير، والتسويف، والإهمال المتعمد.لا يكتفي المسؤولون بذلك لتبرير عدم الإقدام على اي خطوة إنقاذية، بل يعلّقون جميع العقد والمشكلات الإقتصادية، والقدرة على فكفكتها، على شماعة صندوق النقد الدولي الذي توقفت المفاوضات معه، أو أُوقفت، بسبب تناقض كبير بين ما يبتغيه المفاوض اللبناني من دور للصندوق، وبين رؤية الأخير للحل الشامل، والشروط الإصلاحية القاسية التي يضعها على الطاولة كمقدمة لأي حل منشود.
أخطر هذه الحلول (وهو ما يقضّ مضاجع اللبنانيين والخبراء) إصرار الصندوق على “شطب الودائع”، و”إلغاء ديون الدولة على مصرف لبنان”، و”تحرير سعر الصرف” كليا، من دون التدرج بذلك، وشروط أخرى. هذا الامر حدا بالحكومة اللبنانية، ومعها بعض أهل العلم والإقتصاد والسياسة، من الممسكين بملف العلاقة مع صندوق النقد، الى اعتبار أن لبنان عاجز كليا عن الايفاء بالإلتزامات التي يطلبها الصندوق، فيما يشكك بعضهم بأهداف خفية، وأجندة سياسية له، تقف خلف تصلبه بشروطه، وإملاءاته على لبنان.
أمام هذا الواقع، يرى الوزير السابق الدكتور سمير المقدسي ورئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية الدكتور منير راشد ان التفاهم مع الصندوق لا يكمن في خطة تؤدي الى شطب ودائع المواطنين لدى المصارف التجارية والمقابل لها في مصرف لبنان أو بإعادتها فورا، بل إن الطريقة الفضلى هي في اعادة جدولة جميع الاصول والالتزامات المالية الخاصة والعامة بالعملة الاجنبية والمحلية لفترة زمنية متوسطة (5 سنوات) بدلا من شطب الودائع ورؤوس أموال المصارف، ومع الرجوع الى القضاء لإعادة أي ودائع ناتجة عن أعمال غير قانونية أو حُوّلت الى الخارج بطرق غير شرعية، وفصَّلا رأيهما هذا بكتاب سلّماه الى الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في بيروت فريدريكو ليما اعتبرا فيه أن السيناريو المطروح في التقرير الاخير للصندوق لا يزال يستند الى الافتراض أن الازمة هي حالة افلاس للقطاع المصرفي بينما هي في حقيقتها ازمة سيولة. ففي حالة الافلاس تُعتبر التزامات مصرف لبنان تجاه المصارف بالدولار ديناً تتحمله الدولة اضافة الى دينها باليوروبوند، فيصبح حجم الدين الى الناتج المحلي بحسب تقديرات صندوق النقد نحو 510% من الناتج المحلي بنهاية 2022. وهذه النسبة المرتفعة تُعتبر حالة غير قابلة للاستمرار، وهي ايضا من وجهة نظر مجلس المديرين التنفيذيين لصندوق النقد دين مرتفع ويعرّض حصص الدول الاعضاء لمخاطر مرتفعة قد تنتج عن تقديم اي تسهيلات مالية للبنان. لذا يطلب مجلس المديرين من لبنان التوصل اولاً الى مستوى من المديونية يكون قابلاً للاستمرار لكي يبتّ بتقديم اي تمويل له. لذلك تعتمد خطة الصندوق خفض دين الدولة من 510% في 2022 الى 110% في 2023 خلال سنة واحدة لكي يستحق لبنان استعمال التمويل المتاح من صندوق النقد. لذلك ارتأت خطة الصندوق تقليص ميزانية مصرف لبنان من خلال شطب التزاماته نحو المصارف والتي يقابلها شطبٌ للودائع في المصارف، ولكن على ما يبدو من دون أخذ وقعها الاجتماعي السيئ والخطير على المودعين في الاعتبار. كما تشمل الخطة شطب جزء من الدين باليوروبوند وكذلك تحويل جزء من الودائع لرسملة المصارف.
وقد قدمت الحكومة بعض التعديلات على خطة صندوق النقد شملت استرداد الفوائد الفائضة من الودائع، التمييز في المقاربة بين الودائع التي حُولت الى دولار قبل 17 تشرين الاول 2019 والتي حُولت بعد هذا التاريخ، وانشاء صندوق استرداد للودائع من عائدات املاك الدولة تحوّل له ما تبقّى من الودائع، واستعادة الاموال من الودائع التي تُعتبر منهوبة. الا ان كل التعديلات المقترحة سيقابلها شطب للودائع بالدولار ولا تؤدي الى حل للأزمة، والاستمرار بنقاش هذه التعديلات غير فعال ولا يفي بالغرض المنشود لحماية الودائع ولإعادة الثقة والسيولة للمصارف. من هنا يرى المقدسي وراشد “ضرورة اعتماد حل بديل للوصول الى هدف توفير السيولة والثقة، وهما لبّ الحل ويمهدان الطريق للاتفاق على برنامج فعّال مع الصندوق من خلال اجراءات عدة، أولها تأكيد المحافظة على الودائع كافة، والرجوع فقط الى القضاء لإعادة اي ودائع ناتجة عن اعمال غير قانونية أو حوّلت الى الخارج بطرق غير شرعية”.
صحيح ان توزيع الودائع وكذلك الثروة في لبنان لا يتصف بالتوزيع العادل، ولكن برأي المقدسي وراشد ان شطب ودائع الاثرياء والآلاف من متوسطي الدخل وكذلك ودائع النقابات تحت شعار تحقيق المساواة من خلال حرمانهم مما جنوه خلال عقود من العمل الشاق، “سيكون ضربة قاضية لركائز الاقتصاد اللبناني. فالتوزيع العادل للدخل والثروة لا يتحقق من خلال إفقار الجميع، وإنما من خلال سياسات مالية (نظام ضريبي تصاعدي عادل) وسياسة تنموية متوازنة، وبرامج فعالة للحماية الاجتماعية”.
ويرى المقدسي وراشد أن “الحل لا يكمن في شطب ودائع المواطنين لدى المصارف التجارية والمقابل لها في مصرف لبنان او في اعادتها، بل إن الطريقة الفضلى هي في اعادة جدولة جميع الاصول والالتزامات المالية الخاصة والعامة بالعملة الاجنبية والمحلية لفترة زمنية متوسطة (5 سنوات) بدلا من شطب الودائع ورؤوس اموال المصارف، إذ ان اعادة الجدولة هي الخط الاول لمعالجة الازمات المالية، وهذا ما لجأ اليه صندوق النقد من خلال نادي باريس ونادي لندن اللذين خدما اعادة جدولة الديون للدول المتعثرة بإشراف صندوق النقد، ولم يكن شعار هذه المبادرات الشطب اولاً ومن ثم الاصلاح، وانما الجدولة توازياً مع الاصلاح”.
وبرأيهما “يجب اعتبار ودائع المصارف لدى مصرف لبنان كودائع متعثرة، وليس كخسارات على الدولة، وتاليا تكمن معالجتها من خلال اعادة الجدولة وتوفير السيولة للمصرف المركزي والمصارف. ويُعتبر دين الدولة مُكوناً بمعظمه من الالتزامات الصادرة باليوروبوند، والقليل من الديون الثنائية ولا يتعدى مجموعهما 40 مليار دولار. ومن الممكن الحصول على حسومات من الجهات الحاملة لسندات اليوروبوند، وخصوصا المؤسسات المالية العالمية التي تحوز اليوم نحو نصف قيمة هذه السندات، وقد حصلت على معظمها بأسعار مخفضة خلال الازمة. وسيؤدي التسامح بجزء من الدين باليوروبوند (الثلث على سبيل المثال) الى خفض الدين العام الى نحو 100% من الناتج المحلي، فيصبح التوصل الى برنامج مع المديرين التنفيذيين في صندوق النقد مقبولا”.
أما توافر السيولة فيكون وفق المقدسي وراشد، “عبر تحرير سعر الصرف (مع تدخل مصرف لبنان في السوق الحرة لتأمين انتظامه) الذي سيخوّل المصارف التعامل مع سوق القطع الاجنبي بالسعر الحر الذي سيجذب الودائع والسيولة للمصارف، وانهاء اعادة الديون لمصلحة المصارف بسعر الصرف الرسمي على حساب المودعين، كما سينهي ما يسمى “لولار”. حينئذ يقبل المودع ان يسترد وديعته بالليرة او بالدولار على حد سواء، ويصبح دور العملتين متوازياً في المعاملات المحلية”.
ويؤكد المقدسي وراشد “ضرورة توقف ضخ السيولة بالعملة الوطنية لتمويل الدولة، والذي بدوره سيؤدي الى وقف انهيار الليرة، وذلك مع استهداف توازن مالي خلال فترة وجيزة على اساس فصلي لا يتعدى 18 شهرا. فتحرير سعر الصرف مرفقا باعادة جدولة الدين وخدمة دين القطاع العام سيؤديان دوراً مهماً في تحقيق التوازن المالي، علما أن لدى الحكومة العديد من الادوات الاخرى في الايرادات والنفقات لتحقيق هذا الهدف”.
ثم إن خصخصة ادارة مؤسسات القطاع العام عبر مناقصات عالمية شفافة، “امر مطلوب وفعال. وبعد تعافي هذه المؤسسات يجب تحويلها الى شركات مساهمة تعرض في سوق بورصة بيروت، مع تحديد سقوف للملكية الخاصة، وقد تحتفظ الدولة بمساهمة معينة”. وهذا الاجراء برأي المقدسي وراشد، “سيدعم الوضع المالي للدولة من خلال ارباحها والضرائب وكذلك ريع التخصيص الجزئي لهذه المؤسسات”.
هذه الاجراءات ستمهد لاعادة الثقة بالاقتصاد اللبناني ولعملية النهوض خلال فترة وجيزة. ان لعبة الانتظار المتبعة حاليا لن تفضي الى أي نتيجة بل ستلحق المزيد من الضرر بالاقتصاد، مع توقع أن يرحب صندوق النقد الدولي بتحرير سعر الصرف وخلق سوق موحدة له، وكذلك اعادة جدولة التزامات الدولة ومصرف لبنان بدلا من شطبها. كذلك ستوفر هذه الاجراءات السيولة وعودة الثقة بالمصارف والدولة والعملة الوطنية، ويصار الى التخلي تدريجا عن الاقتصاد النقدي والتحول الى استعمال الصكوك المصرفية وبطاقات الائتمان في المعاملات، وتخفف الطلب على الدولار النقدي.