الدولة في سبات عميق و”المركزي” وحيداً في الميدان… فهل ينسحب؟ الكتلة النقدية إلى 60 ألف مليار ليرة بانخفاض نحو 28% خلال شهر

الدولة في سبات عميق و”المركزي” وحيداً في الميدان… فهل ينسحب؟ الكتلة النقدية إلى 60 ألف مليار ليرة بانخفاض نحو 28% خلال شهر

يوم وقعت الواقعة الشعبية في تشرين الاول 2019 لإسقاط النظام والتركيبة السياسية، تنادى أهل السلطة لحماية كراسيهم وديمومة حكمهم، ونسي الجميع وظيفتهم في حماية الأمن الاجتماعي والنقدي والمالي، ورُمي الحِمل على #مصرف لبنان وحده. راح “المركزي” يتصرف، ولا يزال، كأنه بمفرده أمّ الصبي وأبوه، متلقيا السهام مع العتب والتجريح والتهديدات من جهة، وطلبات الحكومة المتزايدة منه توفير الدعم بالدولار الـ”فريش” لاستيراد المحروقات والمواد الإستهلاكية والأدوية، والتي عبر معظمها تهريبا الى خارج الحدود، برعاية سياسية وحزبية، اضافة الى مصاريف الدولة من جهة أخرى.

إنهارت الليرة ومعها القدرة الشرائية للمواطن، وتوقفت المصارف، وساد الإنكماش والفراغ في الحكم والحكومة، ولم يبقَ غير “حديدان” مصرف لبنان في الساحة. إبتكر “صيرفة” واستبدل الإفراط في طباعة الليرة بدولارها، عندما حوَّل رواتب القطاع العام والمتقاعدين جميعها عليها، ليصيب عصفورين بحجر واحد. الأول وقف تنامي التضخم، والثاني ضخ سيولة دولارية في السوق لوقف الارتفاع المطّرد للدولار.
“البلاد تسير من دون مرجعية” هو أفضل وصف للواقع المرير قيل أخيرا، فيما المحاولات الوحيدة التي حصلت لتحسين الأوضاع النقدية والاجتماعية، والسيطرة على جموح الدولار، كانت من مصرف لبنان وحده. كما أن الحلول الجزئية لمشكلة الكهرباء، وتأمين الدواء للأمراض المستعصية، وتأمين مصاريف الدولة الداخلية والخارجية، ما كانت لتتم لولا تدخّل مصرف لبنان. يُطلب منه دور الدولة، وبعض الدولة يشيطن جميع قراراته وخدماته ووظيفته. يتأففون من جنون الدولار القاتل لإمكانات الناس، ويستاؤون عندما يتدخل للجم اندفاعه صعودا.
الكثير من الاقتصاديين يتفقون على أن أفضل حلّ يقضي بانسحاب كلّي أو شبه كامل لمصرف لبنان من ساحة المعركة… لا “صيرفة” ولا دفاع عن الليرة ولا مساعدة، وليترك السلطات المعنية تقوم بواجباتها، حتى لو عرّضه هذا القرار للإقصاء… فهل هذا الحل منطقي؟
الخبير الاقتصادي الدكتور محمود الجباعي استغرب الحملات التي تُشن على حاكم مصرف لبنان الذي يصارع وحيدا في ظل سبات عميق لأركان الدولة عن تحمّل مسؤوليتهم في وضع الحلول المالية والاقتصادية للبلاد. فالوحيد في هذه الدولة الذي يستنبط الحلول ويقوم بإجراءات لوضع حد لتفلّت سعر الصرف هو مصرف لبنان، أما المعنيون الآخرون فماذا يفعلون؟ ماذا تفعل وزارة المال أو وزارة الاقتصاد التي سمحت للتجار بالتسعير بالدولار بما رفع سعر الصرف 25%؟
ففي ظل الازمة الخانقة وعدم وجود أفق للحلول السياسية وتنامي الخطاب العنصري والطائفي والضغوط المالية والاقتصادية على الدولة والقطاع العام خصوصا، ومع ترهل جسم الدولة اقتصاديا وماليا بسبب عدم قدرتها على الانتاجية وتحصيل ايرادات نقدية، يؤكد جباعي أن الدولة “لا تزال قائمة حتى اليوم بفضل مصرف لبنان. فالدولة تحتاج شهريا الى ما بين 250 و300 مليون دولار لتأمين رواتب موظفيها في الداخل والخارج واستيراد القمح والمواد الطبية ومستلزمات الكهرباء وغيرها من المصاريف، في حين أنها لا تنتج أكثر من 300 مليون دولار سنويا. من هنا أهمية تدخل مصرف لبنان عبر شرائه الدولار من السوق”. ويقول جباعي إنه “على عكس ما يُحكى أن مصرف لبنان يستخدم اموال المودعين، بَيد أن الحقيقة أنه طبع عملة لبنانية بنحو 80 تريليون ليرة يستخدم قسما منها لشراء الدولارات وضخّها عبر صيرفة، لتأمين رواتب القطاع العام والتدخل للجم سعر الصرف”. ورغم أن هذه الطريقة، برأي جباعي، “تؤدي الى خسارة مصرف لبنان بعض الاموال بالعملة اللبنانية كونه يستخدم الليرة عبر منصة صيرفة بسعر أقل”، إلا انه يسأل عن البديل في حال لم يتدخل مصرف لبنان لتهدئة سعر الصرف؟ وكيف يقبض الموظفون رواتبهم وكيف نستورد القمح والادوية ونؤمّن مصاريف الدولة؟
لكي يتوقف مصرف لبنان عن شراء الدولار من السوق، يؤكد جباعي أنه يجب على الدولة “إعداد خطة للتعافي الاقتصادي وموازنة عامة منطقية، وتغيير النظام الضريبي الحالي ليكون في مقدورها تحصيل 200 أو 300 مليون دولار شهريا، وتاليا ينتفي التبرير لتدخّل مصرف لبنان في السوق. ولكن طالما أن الدولة ليس لديها الامكانات لتأمين الأموال لرواتب الموظفين أو حاجتها، فطبيعي أن يشتري “المركزي” الدولار من السوق، علما أن تدخله في السوق بين فترة واخرى يؤخر بشكل أو بآخر ارتفاع سعر الصرف”.
ويشير جباعي الى أنه “سواء تدخّل مصرف لبنان عبر صيرفة أم لم يتدخل، فإن مسار الدولار تصاعدي وكل ما يفعله هو شراء الوقت في انتظار اتفاق القوى السياسية على انتخاب رئيس للجمهورية، ووضع الحلول الحقيقية للاقتصاد والاتفاق مع صندوق النقد الذي هو أساسي لاعادة الثقة بالاقتصاد الوطني، وفتح الآفاق أمام لبنان للتعامل مع الدول الاخرى، علما أنه كلما طال الحل السياسي، لن يكون في مقدور مصرف لبنان التدخل، كون حجم المضاربين والضغوط ستزيد بما يفوق قدرته على التدخل لحل الازمة”.
وبغضّ النظر عن أهمية وجود منصة صيرفة، إلا ان الحقيقة هي أن مصرف لبنان بحاجة الى مساعدة الدولة من خلال الاجراءات التي اصبحت ملحّة من ضرائب وإعداد موازنة الـ 2023 التي من المستغرب عدم الحديث عنها حتى الآن. ويقول جباعي: “فيما يشهد القطاع الخاص نموا بنحو3%، تعيش الدولة حال تخبط مالي وفقدت كل القدرة على ايجاد نوع من الانضباط للايرادات والنفقات. من هنا فإن مصرف لبنان يصارع الامواج بموضوع سعر الصرف وحيدا إذ يستطيع لفترة محددة أن يضبط سعر الصرف، ولكن في اللحظة التي يفقد فيها القدرة على التدخل فإن سعر الصرف سيفلت من عقاله”.
ماذا لو لم يتدخل مصرف لبنان؟
صحيح ان تدخل مصرف لبنان في سوق القطع مكلف نسبيا، لكن السؤال الاهم: ما هي كلفة عدم تدخله؟
تؤكد مصادر متابعة أن “تدخل مصرف لبنان في سوق القطع لتهدئة السوق يكلف بضعة ملايين من الدولارات شهريا، كونه يقوم بتأمين الدولارات من شركات تحويل الاموال والمساعدات للنازحين، ثم يقوم باعادة ضخها عبر منصة صيرفة، وتاليا فإن الخسارة موجودة ولكنها مقبولة”. وكشفت المصادر أن “النقد بالتداول انخفض من 83 ألف مليار ليرة في منتصف شباط الماضي الى نحو 67 ألف مليار في أول آذار، ويتوقع مع بداية نيسان أن ينخفض أكثر الى 60 ألف مليار، أي ما يوازي 600 مليون دولار، اي أن الكتلة النقدية انخفضت نحو 28% خلال شهر، وهذا امر إيجابي”.
واذ اعتبرت ان “عدم تدخل مصرف لبنان اظهر ان الدولار قد يرتفع 40 الف ليرة يوميا كما حصل الاسبوع الماضي”، طرحت المصادر نفسها أسئلة عدة وضعتها برسم المعنيين: “ماذا لو تم ترك السوق ووصل الدولار الى 200 الف ليرة او اكثر؟ ماذا سيحصل في الشارع؟ ماذا عن ردة فعل المواطنين الذين يعانون من الغلاء الفاحش والفقر؟ هل يُتركون لمصيرهم؟ هل ترك صفيحة البنزين تصل الى 4 ملايين ليرة أمر مقبول؟ هل جعل راتب الموظف يخسر 40% من قيمته في يوم واحد مقبول؟ من سيتحمل قطع الطرق؟ من يتحمل الفوضى غير المسبوقة واحتمال حصول مشاكل امنية لا تحمد عقباها؟ هل يجب اعطاء فرصة لمن يريد الفوضى؟ هل يجب اخلاء الساحة للمضاربين؟ هل يجب المساعدة في تنفيذ مخطط بعض الخارج بحصول الانهيار التام وغير المسبوق؟”.
وقالت المصادر إنه “في ظل حكومة غير قادرة على القيام بواجبها، ومجلس نواب لا يقر القوانين الاصلاحية لاسباب عدة، وفي ظل غياب المؤسسات العامة، وفي ظل اضراب القطاع العام لاسباب مبررة، بقي مصرف لبنان يقاوم منفردا محاولا وضع حواجز امام الانهيار، واعطاء وقت اضافي للسياسيين لانتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة جديدة والبدء بمسيرة الاصلاح والتعافي التي يستحقها الشعب اللبناني بعد المعاناة”.
بين التدخل وعدمه، وبين السيىء والاسوأ، تؤكد المصادر أن “مصرف لبنان اختار وضع حد لتدهور سعر الصرف ومنع وصوله الى مليون ليرة كما يرغب او يحاول او يسوّق بعض الخارج مدعوما ببعض سياسيي واعلاميي و”اقتصاديي” الداخل. والتاريخ سيؤكد صوابية هذه القرارات الجريئة. والمصرف قادر على التدخل كون كامل الكتلة النقدية بالعملة اللبنانية لا تتجاوز قيمتها 750 مليون دولار. يبقى الامل في ان يقوم السياسيون بواجبهم وانتخاب رئيس في اسرع وقت ممكن، لتبدأ مسيرة الاصلاح والتعافي الجدي”.
حقائق الواقع كشفت أن “كلّن يعني كلّن” وقفوا متفرجين أو مدافعين عن أنفسهم فقط، فيما المؤسسة الوحيدة (شاء من يصدق هذا الكلام أم لم يشأ) التي أقدمت وتجرأت على منازلة الأزمة بالمتاح والممكن على قلّته، كانت مصرف لبنان، وغير ذلك لا يملك أي عاقل المدى الذي كان آل إليه الإنهيار، وإلى كم صفر كان سعر صرف الدولار سيؤول.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار