الإتفاق على عدم الاتفاق

الإتفاق على عدم الاتفاق

أصبح اليوم واقعاً وواضحاً، أنّ كل الجهات السياسية والأحزاب بدأت تُهيّئ محرّكاتها ومعدّاتها واستراتيجياتها للفراغ الرئاسي المتوقّع والمنظّم، والذي سيحصل بعد أسابيع عدة. لكن المضحك المبكي، أنّه بعد الجلسة التشريعية الأخيرة والمسرحية الجارية، كان واضحاً ويُمكن قراءته بين السطور، أنّ كل الجهات المعنية إتفقت من وراء الستار على عدم الاتفاق. وبدأ العدّ العكسي، ليس لعهد جديد لكن لفراغ رئاسي جديد.

بعد الجلسة الإنتخابية الأولى، كان واضحاً أنّ المعارضة منقسمة، وكانت الأكثرية الواضحة والساحقة لمن جمع وأقنع 63 صوتاً ورقة بيضاء، هذا يعني أنّ الساحر نفسه إذا جمع صوتين إضافيين يُمكن أن يفرض الرئيس العتيد للجمهورية، حيثما يشاء.

نذكّر وبفخر، أننا بلد دستوري وديموقراطي، وهذا يعني أنّ «الديموقراطية التوافقية»، هي تناقض لن يُطبّق، بمعنى آخر لا يجوز الإتفاق بين الـ 128 نائباً لإدارة البلاد واختيار الشخصيات المناسبة للمناصب.

كما كان واضحاً أيضاً، أنّ كل الجهات السياسية إتفقت في هذه الجلسة الشهيرة على تمرير العديد من الاتفاقات المالية والنقدية والاقتصادية، لأنّ الكل يعلم أنّه خلال الأشهر المقبلة، لا يُمكن مناقشة أو إقرار أي مشروع إقتصادي واجتماعي، وستكون الأولوية المطلقة للسياسة.

في السياق نفسه، الإتفاق الذي حصل حول الموازنة، كان اتفاقاً سياسياً بامتياز، وليس فيه أي نكهة مالية ولا نقدية، ولا رؤية ولا استراتيجية واضحة. حتى أنّ وزير المال المعني الأول بهذا المشروع، لم يستطع أن يُقدّمه بالتفاصيل، ولم يجد آذاناً صاغية للاستماع إلى مشروعه، لأنّ الكل كان يتلقّى التعليمات للتصويت على هذا المشروع المدمّر، وطُويت هذه الصفحة التقنية للتركيز على أولوياتهم والصفحات السياسية.

من ثم رُشق من السماء (باراشوت) قرار سعر الصرف الرسمي الجديد 15 ألف ليرة للدولار الواحد، بعد نحو 30 عاماً، كبالون تجريبي، سياسي بعيداً من التشريع المالي والنقدي، ومنفصل عن الموازنة.

من الآن وصاعداً، كل الجلسات التشريعية، ستُركّز على موضوع الرئاسة، وسيتركون اللبنانيين يتخبّطون بين بعضهم البعض، لتأمين لقمة العيش، ويتركون الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، يزداد يوماً بعد يوم، من دون أي مسؤولية أو قلق.

في السياق عينه، لقد وُضعت في الجوارير بقية الإصلاحات المرجوة، مثل «الكابيتال كونترول»، و»خطة التعافي»، وبقيت فقط الشعارات الوهمية، لحماية ما تبقّى من أموال المودعين، بينما في الحقيقة يُتابع إستنزافُها يومياً لما تبقّى منها.

فالشق الأول من الجلسة التشريعية، ومناقشة الموضوع الاقتصادي وخصوصاً إقرار الموازنة، كانت فقط لـ (رفع العتب) بغية إرضاء بعض متطلبات صندوق النقد الدولي شكلياً، واختبار بعض الخطط، وإلهاء الشعب مرة أخرى، بينما يُركّزون على مصالحهم وأولوياتهم السياسية.

إنّه لواضح، أن ليس هناك جدّية وإرادة حقيقية لأي خطة إنقاذية، لكن ما نشهده اليوم هو قرارات عشوائية وتوافقية ورضائية بعيدة عن خطة متكاملة، متجانسة ومتماسكة، لمواجهة أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ العالم. فالسياسيون في كوكب الاستحقاقات والخلافات والتحالفات السياسية للمرحلة المقبلة، والاقتصاد والشعب في كوكب الذل والعذاب والإنهيار.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع الجمهورية