منذ شباط 2018 تاريخ توقيع لبنان للمرة الأولى عقداً مع الكونسورتيوم النفطي بقيادة توتال الفرنسية والذي يضم إلى جانبها كلّاً من «ايني» الايطالية و»نوفاتيك» الروسية للتنقيب عن النفط والغاز في الرقعتين رقم 4 و9 في مياهه الإقليمية، والمشاكل تتوالى. أعمال التنقيب لم تبدأ في العام 2019 كما نصت الوعود، بل تأخرت إلى شباط 2020. نتائج الحفر في حقل «بيبلوس» في البلوك رقم 4 أتت سلبية، والحقل لم يتضمن كميات تجارية. من بعدها توقفت أعمال التنقيب واستفادت الشركات من قانون تمديد المهل لمرتين وتمديد العقد لغاية العام 2025، بسبب جائحة كورونا. ليليها تعاظم الخلاف على ترسيم الحدود البحرية، ودخول البلوك رقم 9 في بازار المفاوضات الدولية. لنصل قبل أيام إلى انسحاب شركة «نوفاتيك» الروسية من الائتلاف النفطي.
المزيد من التأخير
التطور الأخير المتمثل بخروج الشركة الروسية «نوفاتيك» قد يكون سبباً جديداً تتذرع به «توتال» و»إيني» لتأخير عمليات الحفر والاستكشاف»، بحسب الخبير النفطي د. ربيع ياغي. وقد تربط هاتان الشركتان البدء بحفر بئر جديدة في البلوك رقم 9 بانضمام شركة جديدة إلى الائتلاف تعوض الحصة المكتتبة بها الشركة المنسحبة نوفاتيك». وبحسب ياغي «ليس من الضروري أن تكون الشركة الجديدة متخصصة بالتنقيب، أو الحفر، أو حتى القيام بالمهام التقنية، إنما أن تكون بترولية تعمل في القطاع، وتمتلك ملاءة مالية تعوض خسارة الكونسورتيوم الحصة المكتتبة بها «نوفاتيك» بنسبة 20 في المئة. وذلك بالمقارنة مع حصة بنسبة 40 في المئة لكل من توتال وإيني». إلا أنه قبل حسم ملف ترسيم الحدود وتسجيلها رسمياً في الامم المتحدة، فـ»من المستبعد أن تقدم أي شركة في العالم على الحلول مكان «نوفاتيك» والمخاطرة بالتنقيب في مناطق متنازع عليها»، من وجهة نظر ياغي. و»ما على لبنان إلا الصبر والانتهاء من واجبه بترسيم الحدود، انطلاقاً من الخط رقم 23 الذي سبق للمفاوض اللبناني ان تنازل عنه بغباء في مفاوضات الترسيم مع قبرص في العام 2007، وأبدى مرونة بالتراجع شمالاً إلى الخط رقم 1. وهذا ما استغلته اسرائيل بعد ثلاث سنوات عند مفاوضات ترسيم حدودها مع قبرص».
سيناريوات الإنسحاب
الإنسحاب المحيّر لـ»نوفاتيك» الروسية يحتمل 4 سيناريوات:
الاول، أن استمرارها في الائتلاف يشكل ضغطاً معنوياً وإدارياً على الشركتين المتبقيتين بحكم العقوبات المفروضة على انشطة الشركات الروسية. وبالتالي من الممكن أن يكون خروجها قد أتى في هذا الاطار، أي كي لا تؤثر على شريكتيها بسبب الضغوط الاوروبية والعقوبات الاميركية.
الثاني، إمكانية تصاعد الخلاف على البلوك رقم 9 في حال لم تتوصل مفاوضات ترسيم الحدود إلى الحل المرجو، وتفضيل الجانب الروسي البقاء بمنأى عن هذا الصراع.
الثالث، يتعلق باعادة تقييم روسيا لوجودها في لبنان، وعدم رغبتها بتغطية إطلاق جولة جديدة من الاستكشافات برعاية أميركية في حال التوصل لاتفاق على ترسيم الحدود. خصوصاً أن الغاز المنتج من المتوسط سيكون البديل الفعال لاوروبا عن الغاز الروسي. حيث تعمد القارة العجوز إلى تقليل وارداتها تدريجياً للوصول إلى رقم صفر بعد العام 2030.
الرابع، تصعيب عملية الاستكشاف على لبنان، نظراً لموقفه من الحرب الروسية على أوكرانيا. ولا سيما ان روسيا تتوقع استحالة دخول شركة جديدة على الائتلاف بسبب كل التعقيدات.
دخول الدولة الإئتلاف هرطقة
أمام هذا الواقع بدأت تبرز أصوات تنادي بدخول الدولة اللبنانية كطرف ثالث بـ»الكونسورتيوم». إذ كل ما يتطلبه الامر هو تأسيس شركة وطنية للنفط والمساهمة، بالائتلاف. وبهذه الطريقة يضمن لبنان حصة أكبر من العائدات المخصصة لها في حال التوصل إلى اكتشافات تجارية. «هذه النظرية هي محض هرطقة»، من وجهة نظر ياغي. «فعدا عن كون الدولة اللبنانية مفلسة، ولا تستطيع تأمين التمويل بنسبة 20 في المئة، فان التسليم بامكانية دخول الدولة شريكاً بالائتلاف يتطلب تغيير العقد. حيث لا يعود العقد الموقع بين الدولة والكونسورتيوم عقد «اتفاقية تقاسم الإنتاج» أو ما يعرف بـ Production-Sharing Agreements (PSAs). وهو العقد الذي تمنح الحكومة بموجبه تنفيذ أنشطة الاستكشاف والإنتاج لشركة أو إئتلاف نفط، للاستكشاف والتطوير والانتاج وتحمل كل المخاطر. وفي حال النجاح باستخراج كميات تجارية يُسمح للشركة باستخدام الأموال من النفط المنتج لاسترداد النفقات الرأسمالية والتشغيلية، والمعروفة باسم «تكلفة النفط».
تقديم العروض
من جهتها تقول المحامية المتخصصة في قوانين النفط والغاز لمى حريز، إن «الشركة الجديدة التي ستدخل «الكونسورتيوم» يجب أن تخضع لنفس الشروط التي خضعت لها «نوفاتيك» لجهة التمتع بالمؤهلات المطلوبة والشروط التقنية والمالية. وعليها أخذ موافقة وزارة الطاقة عبر طلب يرفع بواسطة هيئة إدارة قطاع البترول. أما في ما يتعلق بالنسب إذا كانت موازية لتلك المكتتبة بها «نوفاتيك»، أو أكثر أو أقل، فهذا يعود للائتلاف، ولا دخل فيه للدولة اللبنانية». وبرأي حريز، فان الاتراك والقطريين يملكان المصلحة الاكبر في الدخول بشراكة للتنقيب وتصدير الغاز من لبنان. إلا أن الموضوع يبقى رهن الاتفاقات والتسويات السياسية الخارجية التي تجري بمعزل عن الارادة اللبنانية وتفرض عليها.
في مطلق الاحوال فان أكثر الاحتمالات تفاؤلاً باماكانية ترسيم قريب للحدود واستكمال الكونسورتيوم عدده والبدء بالتنقيب في البلوك رقم 9، قد لا يخرج بنتائج جدية على ارض الواقع. «فمن دون «دق» الآبار الاستكشافية تبقى كل التوقعات مجرد فرضيات غير مؤكدة»، يقول ياغي. ولا يسمح إطلاق تسميات على الحقول ولا وضع الآمال عليها من دون عمليات استكشاف جدية. ولعل ما حصل في البلوك رقم 4 خير مثال عن نفخ الوهم الذي تتعامل فيه المنظومة مع اللبنانيين.
دخول لبنان “الكونسورتيوم” قنبلة صوتية مثله مثل التأمل بالآبار الجنوبية قبل إتمام العملية الاستكشافية خروج “نوفاتيك” عقّد المسار النفطي سواء كان السبب عقاباً منها أو عليها
لم تلبث الآمال التي أشيعت في حفل توقيع لبنان عقوداً مع شركات «الكونسورتيوم» النفطي الثلاث في العام 2018، للتنقيب عن «الذهب الاسود» في البحر، أن بدأت تتبخر الواحدة تلو الاخرى. وعلى عكس عملية التبخر الطبيعية التي تشكل جزءاً أساسياً في استمرار دورة الماء في الطبيعة، فان بخار الآمال والوعود الفارغة، تفاعل مع غيوم الترسيم، والازمة الاقتصادية، والمشاكل الدولية ليتساقط على رؤوس اللبنانيين واقتصادهم المنهار «زخات» يأس وإحباط.