الأزمة النقدية: تـأثيرها على لبنان وأسبابها وسبل معالجتها

الأزمة النقدية: تـأثيرها على لبنان وأسبابها وسبل معالجتها

تعريف الأزمة النقدية. فقدت الليرة اللبنانية منذ العام 2019 حوالي 95% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء، وترافق ذلك مع تضخم مفرط (hyperinflation) وتقلبات حادة لسعر الصرف (High Volatility) وتعدد في أسعار الصرف.

تأثير الأزمة النقدية على الأعمال. أصبح تحديد أسعار السلع والخدمات بالليرة مسألة في غاية الصعوبة، ولا سيما لدى الشركات والمؤسسات التي تتاجر بالسلع المستوردة، والتي راحت تغير أسعارها بشكل يومي، بل وعدة مرات في اليوم الواحد ، لمواكبة تقلبات سعر الصرف. وقد أدى هذا الوضع إلى فقدان المستهلكين الثقة بالتجار بالإضافة إلى فقدانهم لقدرتهم الشرائية، فانخفض الطلب وخسرت القطاعات الاقتصادية اليد العاملة الكفوءة لعدم استطاعتها في ظل الأزمة إعطاء زيادات تتماشى مع التضخم. وقد زادت الأزمة النقدية من صعوبة إنجاز الشركات لمحاسبة دقيقة وميزانية وموازنة وفاقمت مشكلة المدارس المقيدة بقوانين لتوزيع النفقات وزادت مشاكل الضمان الاجتماعي. كما أفضى تقلب سعر الصرف إلى انخفاض تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات إلى لبنان وتأخير تعافي البلاد، ما زاد البطالة وعمق الركود. وأخيراً، تحول لبنان عموماً إلى اقتصاد نقدي، الأمر الذي زاد كلفة القيام بالمعاملات اليومية وفاقم صعوبتها وسهل عمل الخارجين عن القانون.   

تأثير الأزمة النقدية على الناس. بات حوالي 80% من اللبنانيين اليوم يعيشون تحت خط الفقر بسبب التضخم وانهيار سعر صرف الليرة. ولم تعد الرواتب والمعاشات التقاعدية التي يتقاضاها بالليرة من كان يشكل الطبقة الوسطى من موظفين وأصحاب مهن حرة تكفيهم لشراء الضروريات مثل الغذاء والدواء. وبالتزامن مع خسارة القدرة الشرائية لمداخيلهم، خسر اللبنانيون قدرتهم على الوصول إلى مدخراتهم التي أودعوها المصارف بالدولار فباتت الأخيرة تسمح بسحبها حصرا بالليرة وبسعر صرف أدنى من سعر السوق الحقيقي. وقد نتج عن ذلك اقتطاع (هيركات) بنسبة 60% إلى 80% على السحوبات، تزداد نسبته مع ارتفاع الدولار مقابل الليرة. ولجأت السلطات إلى استخدام احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان لتمويل برنامج دعم يهدف إلى الحؤول دون ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية مثل المحروقات والدواء والسلة الغذائية، ما أدى إلى زيادة خسائر المركزي وتفاقم أزمة الودائع وانقطاع السلع المدعومة وتهريبها وبيعها على السوق السوداء.  

سبب الأزمة النقدية. يوضح مبدأ المثلث المستحيل (Impossible Trinity) أنه من المستحيل أن تُعتمَد في وقت واحد العناصر الثلاثة: (1) سعر صرف ثابت و(2) حرية حركة رأس المال و(3) سياسة نقدية. وقد اعتمداااا لبنان في أوائل التسعينيات سعر صرف مثبتاً بمعدل 1500 ليرة للدولار ترافق مع حرية حركة رأس المال، ما عنى التخلي عن السياسة النقدية. ونجح هذا الخيار في جلب الاستقرار والتدفقات المالية وحفز النمو، إلى أن بدأ مصرف لبنان الانخراط في السياسة النقدية عبر تمويل عجز الموازنة العامة. عندها ارتفعت النسبة التي يحملها مصرف لبنان من سندات الخزينة من حوالي 30% في العام 2012 إلى حوالي 60% في العام 2019. وقد أدت هذه السياسة النقدية إلى خرق مبدأ المثلث المستحيل، فبات سعر الصرف مهدداً. وبدل الرجوع عن السياسة النقدية أو السماح لسعر الصرف بالتغير، راح المركزي يخسر الدولار ليدافع عن سعر الصرف ويستمر في تمويل العجز، ثم لجأ إلى الهندسات المالية منذ العام 2015 لتمديد هذه السياسة.  

تفاقم الأزمة النقدية. توقعت المؤسسات الدولية في نهاية العام 2019 أن ينهار سعر صرف الليرة إلى حوالي 2500-3000 ليرة للدولار بسبب تراكم الاختلالات. إلا أن زيادة الكتلة النقدية لليرة بمقدار 9 أضعاف من 4.7 تريليون إلى 42.3 تريليون ليرة في شباط 2022 زاد الطلب على الدولار وفاقم الانهيار. وتعود زيادة عرض الليرة إلى استمرار مصرف لبنان في تمويل عجز الموازنة العامة بالإضافة إلى تمويل سحوبات اللبنانيين من المصارف. كما ساهم عدم الاستقرار السياسي والتوترات الدبلوماسية والمخاطر الأمنية وفقدان الثقة في السلطات النقدية في عدم استقرار سعر الصرف. وينبغي على لبنان اليوم أن يختار بين (أ) التخلي عن سعر الصرف الثابت والوثوق بقدرة المصرف المركزي على القيام بسياسة نقدية سليمة، أو (ب) اعتماد سعر صرف ثابت ومنع المركزي من القيام بسياسة نقدية.

نظام التعويم الموجه (Managed Float). يسمح هذا النظام بتغير سعر الصرف ضمن حدود معينة بينما يتدخل مصرف لبنان عن طريق استخدام احتياطي العملات الأجنبية المتاحة لديه للتأثير على سعر الصرف. ويعطي هذا النظام المزيد من المرونة تسمح بتعديل سعر الصرف من وقت لآخر، ما يُفتَرَض أن يوقف تراكم خسائر المصرف المركزي ويمنع تكرار الأزمة الحالية. ويعكس سعر الصرف المعوم حقيقة الوضع الاقتصادي؛ فقد يؤدي انهيار الليرة إلى تشجيع الشعب على المحاسبة. كما يفسح التعويم الموجه المجال أمام سياسة نقدية نشطة تستمر مثلا بتمويل عجز الموازنة العامة وخسائر المصارف عبر انحدار سعر الصرف، وهو ما يفسر حماسة البعض تجاه هذا النظام.

تجربة التعويم الموجه على منصة صيرفة. بدأ لبنان في اتباع نظام تعويم موجه في العام 2021 عند إنشاء منصة صيرفة وراح مصرف لبنان يحدد كمية الليرة في السوق عن طريق سياسة التعاميم (ولا سيما التعاميم 151 و158 و161 وتعديلاتها). وقد فشل هذا النظام في السيطرة على سعر الصرف الذي ارتفع من 12000 ليرة مقابل الدولار عند بدء العمل بصيرفة إلى 20000 ليرة اليوم، واستمر مصرف لبنان في خسارة احتياطي الدولار بسبب تدخله للتأثير على سعر الصرف. كما فشل التعويم الموجه في الحد من التقلبات الشديدة لليرة وكان آخرَها هبوطٌ بحوالي 35% في أقل من أسبوع، فاستمرت الشركات في المعاناة والرواتب والمعاشات التقاعدية والودائع في فقدان قيمتها.

الشروط المسبقة لنجاح التعويم الموجه. يحد معدل الدولرة المرتفع وفجوة مصرف لبنان من قدرته على توجيه سعر الصرف، ما يعقد نجاح التعويم الموجه قبل معالجة الأزمة المصرفية. ومع ذلك، وحتى لو تمت معالجة الأزمة المصرفية، فهذا لا يضمن استقرار الصرف بسبب: (1) غياب استقلالية مصرف لبنان، أي عدم قدرته على رفض تمويل عجز الموازنة العامة، و(2) استمرار الإنفاق العام دون انضباط و(3) حالة عدم الاستقرار التي يعاني منها لبنان. لذا يشترط نجاح التعويم الموجه على تأمين معالجة للأزمة المصرفية واستقلالية نقدية وتوازن مالي واستقرار سياسي ودبلوماسي وأمني. وبغياب هذه العناصر سيضطر مصرف لبنان إلى تخفيض سعر الصرف بشكل متكرر.

نظام مجلس النقد (Currency Board). يلغي مجلس النقد السياسة النقدية ويغطي الليرة بنسبة 100% بالدولار على سعر صرف ثابت، ما يحرر الليرة من جميع القيود (راجع المثلث المستحيل). ويصدر مجلس النقد الليرة فقط عندما يطلبها السوق ويشتري الدولار مقابلها، ويحتفظ بالدولار خارج لبنان ولا يحق له استعماله إلا حين يطلب حاملو الليرة استعادة دولاراتهم. ومع ثبات سعر الصرف وحرية حركة الليرة، تعود الشركات والمصارف إلى العمل الطبيعي وتنحدر معدلات الفائدة وتعود التدفقات المالية مدعومة بهوامش الفائدة وتدني أسعار الأصول المحلية فتنتعش القطاعات المنتجة. ولا يحتاج مجلس النقد إلى أي إصلاح مسبق، بل يمكنه إنهاء الأزمة النقدية في ظرف 30 يوماً.

الاعتراض على مجلس النقد. يقوم هذا الاعتراض على مبدأ أن مجلس النقد يفرض:

(1) التخلص من عجز الموازنة. ولكن ثبات الصرف في ظل مجلس النقد يوقف انهيار قيمة مداخيل الحكومة، كما ترفع عودة التدفقات إيراداتها. وتنخفض كلفة الدين العام مع انخفاض الفوائد، ما يساعد على إعادة الهيكلة والعودة إلى الأسواق المالية لتمويل العجز.

(2) عدم زيادة المساعدات والرواتب في الدولة. ولكن تمويل هذه النفقات عبر زيادة العرض النقدي يؤدي إلى ارتفاع نسب التضخم والفقر ولا تنتج عنه مكاسب حقيقية. وفي المقابل، يحقّق مجلس النقد الاستقرار النقدي، فيحمي قيمة الرواتب ويسمح بزيادات لا يلغيها التضخم.

(3) التخلي عن السياسة النقدية. يسمح هذا التخلي للحكومة باستعادة القدرة على تمويل نفقاتها ومشاريعها الإنمائية ويحسن قيمة الأصول المحلية (راجع النقطة 1)، كما يكسب الحكام شعبية وموارد أكبر جراء إدارتهم بلداً نظامه الاقتصادي أقرب إلى هونغ كونغ منه إلى فنزويلا.

(4) وقف “تسحيب” دولارات المودعين بالليرة، لأنه يمنع السلطات النقدية من تزويد المصارف بالليرة. ولكن جميع التجارب الدولية تشير إلى أن مجلس النقد يرفع الاحتياطي فترتفع معه كمية الليرة في السوق، كما يسمح للمصارف بالتعافي الجزئي مع عودة التدفقات المالية.

(5) خطر تكرار الأزمة بسبب ثبات الصرف. على عكس الصرف المثبَّت، لا يمكن لمجلس النقد القيام بسياسة نقدية كتمويل العجز والهندسات المالية ما يمنع تكرار الازمة (المثلث المستحيل). وفي حال خروج الرساميل، تنخفض كمية الليرة تلقائيا، ما يحافظ على ثبات الصرف.

(6) على السلطة السياسية إنشاؤه وتعيين أعضائه. وضع البروفيسور ستيف هانكي2 مجموعة ضوابط تضمن حسن إدارة مجلس النقد أقصاها تعيين ممثلين عن صندوق النقد الدولي وعن مؤسسات دولية ضمن أعضائه وإنشاؤه خارج البلاد، في سويسرا مثلا، فيكون خاضعاً لقوانينها.

وتشمل الاقتراحات الأخرى وضع خطة نهوض متكاملة والحد من العجز المالي والشراكات بين القطاعين العام والخاص وإعادة هيكلة الديون وإتاحة منصة صيرفة أمام الجميع وتوزيع أفضل للخسائر ورؤية اقتصادية طويلة الأمد وانتخابات نيابية واستقلال للقضاء.

أضغط هنا لتحميل الملف