تُطرح بين الفينة والاخرى مشاريع واقتراحات خطط للخروج بلبنان من أزماته الاقتصادية والمالية، بعضها بتكليف من الحكومة اللبنانية لشركات عالمية على غرار خطة “ماكينزي”، وبعضها بمبادرات فردية لخبراء وجهات محلية ودولية متخصصة، أو من القطاع الخاص كالمصارف والهيئات الاقتصادية، كما مشاريع اقتراحات ورؤى على غرار تلك التي نشرتها “النهار” لعدد من الشركات ورجال الاعمال.
آخر هذه الخطط تلك التي أعلنها وزير الاقتصاد والتجارة راوول نعمة “لنهوض لبنان الاقتصادي”، وهي من إعداده وبدعم تقني من برنامج leri-taf التابع للسفارة البريطانية والبنك الدولي. إلا أن المفارقة أن هذه الخطة لم تأخذ نصيبها من الاهتمام الذي حازته بقية الخطط، وخصوصاً خطة “ماكينزي” التي كلفت نحو 1.3 مليون دولار. فبماذا تختلف خطة وزارة الاقتصاد عن البقية وتحديداً “ماكينزي”؟
لا ينفي الوزير نعمة أن الخطة استوحيت من خطة “ماكينزي”، خصوصا حيال الاجراءات المتعلقة بالوضع الاقتصادي عموما، إلا انها أضاءت على مفاصل أخرى لم تلحظها “ماكينزي”، مؤكدا في اتصال مع “النهار” ان الخطة لم تكلف الدولة اللبنانية أيّ مبالغ ولا حتى دولاراً واحداً.
تتألف الخطة من 93 صفحة وتركز على التطورات التي حصلت في لبنان وتلك التي أدّت الى التدهور الذي تسارعت وتيرته منذ ثورة 17 تشرين، وعلى سلسلة من الإصلاحات الواجب اتخاذها.
بعد اطلاعه على تفاصيل خطة “ماكينزي” وخطة وزارة الاقتصاد، لاحظ الخبير الاقتصادي باتريك مارديني أن “الخطة الاولى وُضعت قبل الازمة، وهي تعتمد بمنهجيتها على التخطيط المركزي الموجّه للإقتصاد فتتدخل مثلاً بنوع المنتجات التي ينبغي زراعتها كالحشيشة والأفوكا، وتقترح صناعات وخدمات محددة تستند الى رؤية “ماكينزي” لمقدرات لبنان ومركزه ودوره في المنطقة. أما خطة وزارة الاقتصاد فهي مختلفة بظروفها كونها جاءت في أوج الازمة وتقترح إصلاح المؤسسات والقوانين التي اوصلت البلد إلى الإنهيار رغم تأكيدها على السياسات القطاعية لـ”ماكينزي”. فالخطة الجديدة تسعى إلى وضع قواعد تعزز الشفافية وتحسّن بيئة الأعمال وتدعم المؤسسات علّها تعيد ثقة الإغتراب والمجتمع الدولي المفقودة حالياً”. ويفضّل مارديني نهج إصلاح المؤسسات المعتمد في الخطة الجديدة على نهج التخطيط المركزي الموجّه والذي أثبت عدم فعاليته في دول أخرى، لافتا إلى “أهمية اقتراح استبدال سياسة الدعم الحالي (Subsidies) بتحولات نقدية (CashTransfers) لأن ذلك يوفر على الدولة اللبنانية هدر مليارات الدولارات”. الا انه في المقابل اعتبر أن الخطة “تغفل لبّ الإصلاح وتركز على القشور في موضوع الغاء الاحتكارات بحيث تحصرها بالوكالات الحصرية، فيما يجب التركيز على كيفية التخلص من الاحتكارات في قطاعات الكهرباء والاتصالات والإنترنت والطيران والتبغ والتنباك والمرفأ والمياه وغيرها من القطاعات، مع عدم نكران أهمية الغاء الوكالات الحصرية”. وإذ رأى ان خطة “الإقتصاد” أعادت تبنّي خطط الكهرباء السابقة التي توصي بصرف مزيد من الاموال على هذا القطاع الفاشل، بدل فتحه على المنافسة، قال: “لا اعتقد ان الاموال التي ستصرف عليه ستأتي بنتيجة تختلف عما سبق من خطط”. وحذّر مارديني من “قانون الشراء العام المقترح والذي تتبناه الخطة لأنه على رغم بعض ايجابياته يحرم إدارة المناقصات قدرتها على إلغاء المناقصات التي تشوبها عيوب قانونية”. وفي الخلاصة اعتبر مارديني ان هذ الخطة “أفضل من سابقاتها، إلا انها في موضوع الكهرباء والشراء العام انتهجت الخطط الفاشلة التي تُطرح وكأنها عملية اصلاح ولكنها في الحقيقة عكس الاصلاح واستكمال للنهج القديم”.
ماذا في تفاصيل خطة “الاقتصاد”؟
لحظت الخطة عدداً من البنود الاصلاحية الضرورية للتمكن من النهوض وتحقيق النمو المستدام في لبنان. وأول هذه البنود يتعلق بالسلطة القضائية التي من شأنها أن ترسي الثقة في المجتمع، من خلال ضمان استقلال السلطة القضائية وحيادها وكفايتها ضمن نظام من الضوابط والتوازنات يضمن الفصل بين السلطات.
وأكدت الخطة مواصلة الحكومة تنفيذ استراتيجية مكافحة الفساد 2020-2025 التي اعتمدها مجلس الوزراء في 12 أيار 2020، اذ جرى بالفعل اعتماد قانون “الحق في الوصول إلى المعلومات” لعام 2017، وقانون “حماية المبلّغين عن المخالفات” لعام 2018 و”مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد” (قانون 2020).
وعلى غرار خطة “ماكينزي”، شددت خطة وزارة الاقتصاد على “اهمية اعتماد سياسة استثمارية جديدة موجهة نحو القطاعات الإنتاجية ذات الميزة التنافسية والوظائف التي تشكّل قيمة مضافة. فالفرصة السانحة في خضم الأزمة الحالية وما أعقبها من انخفاض لقيمة الليرة اللبنانية هي تعزيز الصناعات ذات الإمكانات التصديرية العالية”. كما شددت على “تعزيز المنافسة وذلك من خلال قانون المنافسة الذي سيحمي المستهلك ويعزّز ثقافة المنافسة التي من شأنها أن تؤدي إلى انخفاض الأسعار، وتعزيز جودة السلع والخدمات، والابتكار والإبداع، كما زيادة الاستثمار الخاص من خلال الشركة بين القطاعين العام والخاص، والتي تعتبر مفتاحاً لتحقيق رؤية التحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج”.
وفي ظلّ العراقيل التي تعوق المؤسسات الصناعية في لبنان عن العمل بكامل طاقتها، تقترح الخطة إنشاء مناطق اقتصادية خاصة ومجمعات صناعية لقدرتها على جذب استثمارات جديدة، خصوصا من الشركات الأجنبية، بما سيؤدي إلى تحفيز النمو وخلق فرص عمل وإدخال تقنيات جديدة في الاقتصاد المحلي. وبما ان الشراء العام هو أحد أبرز الإصلاحات الرئيسية التي التزمتها الحكومة في مؤتمر “سيدر” الذي عقد في باريس في نيسان 2018، خصوصا أنه يمثل نحو 20% من إنفاق الحكومة المركزية، و6.5% من الناتج المحلي الإجمالي، اقترحت الخطة تحديث المشتريات العامة ورقمنتها، من خلال قوانين ولوائح جيدة للمشتريات، ترسي الثقة في نفوس الناس بأن أموال دافعي الضرائب سيتم استخدامها بطرق مناسبة وفعالة. ورأت الخطة ان على الحكومة طرح القانون الجديد للمشتريات العامة الذي من المتوقع أن يوافق عليه مجلس النواب، ثم تصدر اللوائح التنفيذية. وتمهد هذه الخطوة الأولى الطريق لنشر منصة إلكترونية للمشتريات العامة وإنشاء قاعدة بيانات للمشتريات.
أما في موضوع الكهرباء فقد أعادت الخطة التأكيد على “ضرورة تفعيل خطة إصلاح قطاع الكهرباء”، مشيرة الى ان الحكومة “تعتزم تحقيق الإصلاحات التي بدأت في هذا القطاع والقضاء التدريجي على العجز المالي”. وشددت على أن الحكومة “لن ترفع الرسوم الجمركية قبل زيادة إمدادات الكهرباء لتفادي أي رسوم إضافية على فاتورة الكهرباء الإجمالية للمواطنين”. وتهدف الخطة أيضاً الى “إصلاح الكهرباء وتحقيق التوازن المالي، من خلال خفض الكلفة، والسيطرة على الخسائر الفنية وغير الفنية للأراضي، وتحسين التحصيل، بدلاً من زيادة الرسوم الجمركية”.
وبالنسبة الى قطاع الاتصالات، حددت الخطة رؤية جديدة للقطاع، “اذ تعمل الحكومة على تبنّي رؤية موحدة لقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، باعتباره المحرك الحقيقي للنمو في اقتصاد المعرفة اليوم. فالإنترنت العالي السرعة وبأسعار معقولة أمر لا بد منه لتنمية الاقتصاد وخصوصا اقتصاد المعرفة، مع اهمية أن ينفتح هذا القطاع على المنافسة لتحفيز الإبداع والقدرة التنافسية، والانخراط في الإصلاحات اللازمة لجذب الاستثمارات والمشاريع ذات الامتياز”.
وفي قطاع النقل، شددت الخطة على “ضرورة تعزيزه باعتباره عاملاً رئيسياً للنمو المستدام، اذ إن الحكومة اللبنانية مصممة على تطوير الشبكات والخدمات المادية التي يعتمد عليها الاقتصاد لتمكين حركة الأفراد والبضائع. وهذا من شأنه أن يسهل وصول الشركات والمستهلكين إلى الأسواق والخدمات ما يعزّز التنويع الاقتصادي”.
كذلك أكدت الخطة على “استكمال تحديث جهاز الجمارك، الذي يعتبر مفتاحاً لتسريع النمو الاقتصادي وتطوير التجارة وتعزيز الصادرات وتحقيق التوازن بين العجز المالي والخارجي”.
وتطرقت الى قانون العمل، فرأت “ضرورة تبنّي قانون عمل جديد لتوسيع حماية الحقوق فتشمل قطاعات إنتاجية إضافية، وتغطي العمال الموسميين في الزراعة، والعمال عن بعد (أي أولئك الذين يستخدمون التقنيات الجديدة)، وعمال المنازل”. وفي هذا السياق، أشارت الى أن الحكومة “تعتزم تطوير برنامج تدريب مهني جديد لتلبية حاجات الصناعة بشكل أفضل ومساعدة الشباب والعاطلين عن العمل للحصول على وظيفة”.
وورد في خطة النهوض الإقتصادية أربعة إصلاحات تحت عنوان عريض هو “برامج الإدماج الاجتماعي”، فاعتبرت الخطة أن “الأزمة الشديدة الحالية التي يمرّ بها لبنان ستؤدي الى تفاقم الإجحاف ونقاط الضعف الموجودة أساساً. ومن أجل تجنب المزيد من المصاعب الاجتماعية المتفاقمة وتخفيف الآثار السلبية للركود العميق وانخفاض قيمة العملة، ستستبدل الحكومة برنامج الدعم القائم على المنتجات ببرنامج تعويضات واسعة النطاق للمواطنين اللبنانيين المقيمين”.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار