أزمة المياه… بين الشبكات الرديفة والقانون ثروتنا المائية ليست بأيدٍ آمنة

أزمة المياه

لطالما تغنّى اللبنانيون بثروة مائية عذبة تكتنزها صخور الوطن، غافلين عن تقارير ودراسات دولية تنقض رومنسيّة العبارات التقليدية التي حفظناها، «كخزان الشرق الأوسط»، أو غيرها. فلبنان الذي يشغل المرتبة 144 عالمياً في هذا المضمار، يبقى نصيب الفرد فيه من موارد المياه المتجدّدة أدنى من معدّل عتبة الفقر الذي يبلغ 1000 متر مكعب سنوياً، وفق منظمة الفاو.

رغم «الدعم السخيّ» من الاتحاد الأوروبي، كما وصفته منظمة اليونيسف، والذي كان آخره من نصيب محطة الناعمة في 30 نيسان 2024، وبالرغم من القروض والمنح الدولية العديدة لدعم القطاع، والتي فاقت 3 مليارات دولار بحسب دراسة أجرتها Triangle بمساعدة Fried-rich-Ebert-Stiftung (FES)، فقد بلغت خدمات إمدادات المياه والصرف الصحي حافة الانهيار، بعدما كانت غائبة أو هشة قبل العام 2021، بحسب ما نشرته اليونيسف على موقعها الرسمي. لتعود وتحذّر في بيان آخر، أن صحة ملايين الأشخاص في لبنان، ولا سيما الأطفال، معرضة للخطر بسبب شبكات إمدادات المياه. ثم يأتي إعلان مصلحة الأبحاث العلميّة الزراعية في بيانٍ نشرته في تشرين الأول 2022 ليؤكّد المؤكّد، بأن 90% من مياه لبنان ملوّثة.

هذا وكانت الأمم المتحدة قد أدرجت الحصول على «مياه نظيفة» ضمن حقوق الإنسان في صيف العام 2010، وأشارت الى أن 1.5 مليون طفل دون سن الخامسة يموتون كل عام بسبب الأمراض المتعلقة بالمياه والصرف الصحي.

قانون المياه اللبناني رقم 192 تاريخ 16/10/2020 أتى حريصاً على هذا الحقّ، وقد لفت إليه صراحة في مادته الثانية: «لكلّ إنسان الحقّ في الحصول على المياه اللازمة لاحتياجاته…». لكنَّ الدولة نفسها أعرضت عن تطبيق قوانينها، وبالتالي تخلّت عن حماية حقوق المواطنين.

مشاريع سدود فاشلة، شبكات مهترئة، نقص بالإمدادات. بالإضافة الى إقرار وزارة الطاقة والمياه «بالافتقار الى إداريين وفنيين مؤهلين قادرين على الإشراف بشكل دقيق على أنشطة مؤسسات المياه» وفقاً لما ورد في الاستراتيجية الوطنية 2020 – 2035 الصادرة عنها.

كلها أسباب حالت دون إصلاح القطاع، وجعلت الناس يبحثون عن بدائل. ثم جاء النزوح السوري بدءاً من العام 2011، فهل أضاف سبباً آخر الى تلك التي ذُكرت؟

يجيب الدكتور باتريك مارديني، مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق، أن مشكلة المياه المتمثّلة بالتلوث، واهتراء الشبكات، ونقص الإمدادات، كانت قبل النزوح السوري. وبالرغم من أنه ضخَّم استهلاك المياه، لكنه ليس السبب المباشر بالتردّي الحاصل.

المشكلة، برأيه، هي الإدارة المركزية الفاشلة للقطاع. فلو كان منتجاً، أو يعمل بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، لما كانت زيادة الاستهلاك لتشكل أي أزمة، بل على العكس، كون زيادة عدد المشتركين يرتبط بزيادة المداخيل.

ملكية المصادر وحقوق الإستثمار

نصّت المادة 8 من القانون رقم 192/2020 على أن «المياه هي ملك عام وغير قابلة للاستحواذ…». على أن «تقوم المؤسسات العامة الاستثمارية للمياه بإدارة المرفق العام للمياه…» المادة 56 منه.

و»ضمن نطاق الاستثمار، يتمتع المرفق العام لمياه الشفة بحصرية التوزيع وبالحق الحصري في صيانة جميع المنشآت وقنوات المياه الضرورية للمرفق…» المادة 62 منه.

لكن، وفقاً لما قاله يونس جرماني رئيس دائرة عاليه في مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان، لـ»نداء الوطن»، يُستثنى من الحقّ الحصري، كل مصدر مياه مملوك قبل العام 1925. الفقرة الأولى من المادة 12 من قانون المياه: «تُمارَس الحقوق المكتسبة على المياه المكرّسة قبل صدور القرار 144/س تاريخ 10/6/1925، بحسب الأعراف والعادات التي برّرت إقرارها طالما لم تتعارض مع مقتضيات الإدارة المستدامة للمياه…).

كما يمكن للمواطن الذي تقدّم بطلب حفر بئر لاستخراج مياه جوفيّة، أن يحصل على الموافقة من وزارة الطاقة والمياه، بعد إقرار المصلحة الواقع ضمن نطاقها بتعذّر تأمين البديل من الشبكة. هذا إذا كان عمق البئر لا يتعدى الـ 150 متراً تحت الأرض. أما إذا تطلب العمل أكثر من ذلك فيلزمه مرسوم. ثم أن كل مياه متفجرة أو مستخرجة تتجاوز 100 متر مكعب خلال 24 ساعة، لا يمكن استثمارها إلا بموجب مرسوم خاص.

إدارات محلية تتيح الشراكة

بحسب جرماني، لا إمكانية لعقد أي شراكة تخصّ قطاع المياه إلا من خلال المؤسسات الاستثمارية. ويمكن لهذه الشَرَاكات أن تحصل في مشاريع محدّدة فقط، مثل تحلية مياه البحر، أو إنشاء سدود، أو حفر آبار. أما الينابيع الطبيعية المتفجرة فاستثمارها محصور بهذه المؤسسات فقط.

ويتابع، أنه حتى البلديات التي تمتلك ينابيع قبل العام 1925، هي أيضاً بحاجة للتنسيق مع المؤسسات العامة الاستثمارية لتمرير المياه في الشبكات. وهذا يشمل البلديات والقطاع الخاص على حدّ سواء. إذاً، في هذه الحالة، ما عاد للمستثمر أي حاجة، أو أي شيء يمكن أن يقدّمه.

في حين، يصرّ مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق، أن لا بديل عن إعادة قطاع المياه الى سابق عهده بإدارة البلديات، رحمة بالمواطن. وبرأيه، يجب أن ينحصر دور المؤسسات الاستثمارية للمياه في العمل التنسيقي بين البلديات، بشكل يسمح لتلك التي تعاني من ندرة مصادر المياه من الاستفادة من فائضها في بلديات أخرى. لكن من غير المقبول أن تُحرم البلديات من إدارة مياهها الخاصة.

فبالرغم من أن العديد منها يختزن مياهاً جوفية كافية، لكنها ممنوعة من استخراجها في ظلّ القوانين الحالية. وهناك بلديات أخرى لديها فرص لتحلية مياه البحر. وغيرها قد يكون لديها مصادر أخرى.

وفي هذا الخصوص، يعرض د. مارديني لأحد الأمثلة، فيقول، إن في عمشيت جرى تحديث للشبكة منذ سنتين تقريباً، لكن المياه لم تصل. حيث انتَفَت المشكلة من النقل واستقرّت في الإنتاج. لذلك عمد أحد المواطنين الى مدّ شبكة رديفة من بئر خاص الى بعض المنازل، فاستغنى المشتركون عن شراء الصهاريج التي غالباً ما تنقل مياهاً غير نظيفة، وأحياناً مياهاً مالحة من البحر مباشرة.

وبرأيه، أن هذه المبادرات على المستوى المحلي، يجب أن يُبنى عليها في المستقبل، بالتعاون مع البلديات لتأمين استمرارية مياه الشفة. وذلك من خلال ما تجيزه القوانين النافذة بصيغتها الحالية، دون تعديلات غالباً ما تأخذنا للأسوأ، بحسب رأيه، لذلك يرى أن العمل في ظل القوانين المرعية الإجراء بالاستناد الى قانون البلديات وقانون المياه وقانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وبالتنسيق مع الأهالي ومالكي العقارات، هو الطريق المثالي لحلّ مستدام.

وقد ذَكَرت المادة 47 من قانون البلديات صراحة، أن «كل عمل ذي طابع أو منفعة عامة في النطاق البلدي، من اختصاص المجلس البلدي…». كما أجاز قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص (48/2017)، إخضاع البلديات واتحادات البلديات لأحكامه في المادة الثانية منه، وقد حدّدت المادة العاشرة شروط وموجبات الشراكة.

أما القانون 192/2020 الذي نصّ في إحدى مواده على حصرية توزيع المياه، فهو مطبّق باجتزاء، حيث أن واقع الحال يخالف المادة 2 منه، المذكورة سابقاً، والمتعلقة بحق كل إنسان في الحصول على المياه اللازمة لاحتياجاته، وأيضاً المادة 61، التي نصّت على وجوب «أن تكون المياه الموزعة صالحة للشرب مهما كان شكل إدارة المرفق…».

النائب ابراهيم منيمنة عضو لجنة الأشغال والطاقة والمياه، كان له رأي مختلف إذ قال لنداء الوطن إن البلديات ليست مسؤولة عن تأمين المياه. لكنه لا يجد مشكلة بالشراكة مع القطاع الخاص، طالما كانت ضمن الأطر القانونية، بشرط معرفة كيفية إقامة الشراكة، وفقاً لخطة استراتيجية للمياه، تكون مقبولة من القطاع الخاص وواضحة الجوانب. تلحظ خصوصيات المناطق وكيفية استفادة كلّ منها، من خلال مفاضلة الحلول ومصادر المياه المتوفرة، فما ينطبق على منطقة لا ينطبق على أخرى.

وبرأيه، إن الاستراتيجية الحالية المتمحورة حول إنشاء السدود تمثّل إشكالية حقيقية للقطاع، وتبعد المستثمرين عن إمكانية الشراكة، فهم لن يدخلوا في شراكات تفتقر الى دراسات وجدوى واضحة.

أما عن الشبكات الرديفة، فيقول، إنه في حال سمح القانون بذلك، فهي لا تحقق العدالة بين المواطنين بعيداً عن مركزية إدارة القطاع، وتوزيع الثروة المائية بحسب حاجة كل منطقة. لكن بسبب تحلل مؤسسات الدولة بتنا نشهد بعض الأعمال الشبيهة بمولدات الكهرباء وهي تفتقر لأي تنظيم، مما يضر بمصالح المواطنين وبالثروات الطبيعية.

يجوز على الكهرباء لا يجوز على المياه

يختم جرماني بالقول، إن القطاع الخاص يعمل في سبيل الربح، مما يتعارض مع مفهوم المصلحة العامة وحق المواطن في الحصول على مياه للشرب بأقل كلفة ممكنة. في حين أن مصالح المياه لا تبغي الربح، وهي تتقاضى من المواطنين بدل الخدمة وليس ثمن السلعة. ما يخالفه د. مارديني، إذ يقول، صحيح أن مصالح المياه لا تبغي الربح، لكن ينقصها الكفاءة في إدارة مواردها، مما يسبّب تكلفة عالية في الإدارة والتشغيل، وسوء الحصول على نتائج مرضية. فحتى عندما توفّرت الأموال في صناديق هذه الؤسسات، لم تستثمرها في الأماكن الصحيحة، فهي أنفقت على السدود وتركت الشبكات، في حين لا يمكن لمياه السدود، وإن نجحت أن تصل الى المنازل بشبكات مهترئة.

لذلك، يمكن القول إن رسومها لا تغطي الكلفة ولا تؤمن المياه. أما إذا عملت البلديات على شبكات رديفة، حتى لو كانت أعلى كلفة لكنها تؤمن البديل الدائم وتبقى أدنى بكثير من تكلفة الصهاريج.

وبرأيه، أن مبدأ الفصل بين: المصدر والنقل والتوزيع، في قطاع المياه، يُمَكّن الفريقين (العام والخاص) من تحديد هامش الشراكة وموجباتها، أسوة بمبدأ الفصل في قطاع الكهرباء، الذي رعته المادة الثالثة من القانون 462/2002. أما منيمنة، الذي لا يوافق على تطبيق هذا المبدأ على قطاع المياه، برأيه، أنه مختلف عن قطاع الكهرباء، فمصادر إنتاجه من الثروات الوطنية الطبيعية ووصولها حقّ للجميع. في حين يمكن لإنتاج وتوزيع الكهرباء أن يكونا بإدارة خاصة. بينما النقل يجب أن يبقى للدولة لأسباب تتعلّق بالحماية.

بين الحصرية واللامركزية والشبكات الرديفة، كمّ هائل من الأفكار والنظريات، لكن «إذا كنا سننتظر الدولة لكي تصلح قطاع المياه فإننا سننتظر طويلاً». بهذا، يختم الدكتور باتريك مارديني، وهنا يبدأ النقاش.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع نداء الوطن