البيع القسري لـ العقارات

العقارات

قبل ستة أشهر تقريباً، كانت فاطمة تقلّب هاتفها في المساء عندما استوقفها إعلان جديد في صفحة على موقع “فيسبوك” مخصّصة لـ العقارات: “شقة للبيع. موقع مميّز في حارة حريك. السعر قابل للتفاوض”.

تأمّلت الصورة المرفقة التي تُظهر شرفة صغيرة تطلّ على شارعٍ تألفه تماماً، وتمتمت في سرّها: “حتى الجيران صاروا يبيعون”.

بعد أيام قليلة فقط، كانت فاطمة نفسها قد اتخذت قراراً مماثلاً، وانضمّت إلى أعداد متزايدة من الراغبين في بيع منازلهم وشققهم السكنية في الضاحية الجنوبية لبيروت خوفاً من المجهول.

تقول بصوتٍ تغلبه الحسرة: “كلّ زاوية في البيت تحمل ذكرى. لم تُدمّر شقتي بعد، لكن من يضمن أنها ستبقى؟ من الأفضل أن نبيعها ولو خسرنا. إن خسارة جزء من ثمنها أهون من خسارة جنى العمر”.

في الأشهر الأخيرة، تشهد الضاحية الجنوبية، المعقل الأساسي لحزب الله، حركة بيعٍ عقاري غير مسبوقة. لا أحد يبيع طمعاً بربحٍ أو “فارق سعر”، بل لأن الخوف بات أثقل من التعلّق بالمكان. فمع تصاعد المخاوف من تجدّد الحرب بين حزب الله وإسرائيل، يسابق كثيرون الوقت للتخلّص من ممتلكاتهم، خشية أن تتحوّل إلى أنقاض، خاصة في ظل استمرار الغارات الإسرائيلية وتمسّك الحزب بعدم تسليم سلاحه.

“الخوف أقوى من الانتماء”
تزدحم صفحات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بإعلانات من نوع: “شقة للبيع في الضاحية الجنوبية”. ثم تتبعها غالباً عبارات أخرى، مثل “السعر مغرٍ” أو “البيع للضرورة القصوى”.

هذه الجمل القصيرة تختبئ خلفها حكايات طويلة من ظروف المعيشة الصعبة والقلق بشأن المستقبل.

منذ أن استهدفت إسرائيل الضاحية الجنوبية في مارس الماضي، في ظل سريان “اتفاق وقف إطلاق النار”، تغيّر المشهد كلياً. فالأزقّة باتت تعجّ بأحاديث النزوح أكثر من أحاديث الثبات، فيما تحلّق المسيّرات الإسرائيلية ليلاً ونهاراً فوق الضاحية، مذكّرة السكان بأنّ الحرب لم تنتهِ بعد.

تقول فاطمة إن “كلّ طائرة مسيّرة تعيد إليّ مشاهد القصف والدمار”، فيما بدأ زوجها البحث عن شقة صغيرة في مناطق خارج الضاحية. أما ابنتها، الطالبة الجامعية، فتقول بأسى: “نحبّ الضاحية، لكنها لم تعد كما كانت. لا نريد أن نعيش تجربة النزوح كلّ بضع سنوات”.

حسين، الموظف الذي يسكن في منطقة المريجة منذ أكثر من عشرين عاماً، يختصر المشهد بعبارةٍ واحدة: “الخوف أصبح أقوى من الانتماء”. يضيف إن “كلّ تهديد إسرائيلي وكلّ مسيّرة تذكّرنا بأنّ الهدنة هشّة. تضرّرت شقتي سابقاً، ولا أريد أن أراها مدمّرة مجدداً. أبيعها بسعر قليل أفضل من أن أخسرها كليّا”.

وكان وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس قد هدد باستهداف العاصمة بيروت، في حال حاول حزب الله إطلاق النار على المستوطنات في شمال إسرائيل.

وفي مقابلةٍ عبر القناة الرابعة عشرة الإسرائيلية، أكّد كاتس أنّه نقل هذه الرسالة إلى المبعوثيْن الأميركييْن توم برّاك ومورغان أورتاغوس، وذلك في إطار سلسلة تحذيرات تنذر بأنّ المنطقة ما تزال على صفيحٍ ساخن.

عرض بلا طلب
يصف رئيس تحرير “موقع جنوبية” الصحفي علي الأمين، المشهد بـ”نزوح سكاني متواصل” منذ بدايات “حرب الإسناد” في أكتوبر عام 2023، ولا سيما بعد عملية اغتيال القيادي في حركة “حماس” صالح العاروري في الضاحية الجنوبية العام الماضي.

ويقول الأمين لموقع “الحرة” إن “كثيرين غادروا الضاحية، إما لأن منازلهم تضررت أو خوفاً من تجدّد الأحداث. بعضهم بدأ يشعر بالاستقرار في مناطق نزوحه الجديدة، فقرر بيع منزله في الضاحية لشراء آخر في مكان أكثر أماناً أو لتغطية تكاليف الإيجار”.

هذا الواقع أدى، بحسب الأمين “إلى زيادة في المعروض من العقارات مقابل تراجع الطلب عليها، ما انعكس انخفاضاً واضحاً في الأسعار مقارنة بما كانت عليه في السابق. في المقابل، استغل بعض تجار العقارات هذا الانخفاض بهدف الاستثمار لاحقاً عندما تتبدّل الظروف الأمنية”.

من جانبه يؤكد نقيب الوسطاء والاستشاريين العقاريين، وليد موسى، أن “كثيرين من سكان الضاحية متعبون وخائفون، ولم يعودوا قادرين على التعايش مع أجواء الحرب والهلع، ويفضّلون الانتقال إلى مناطق أكثر هدوءاً بحثاً عن قدر من الاستقرار”.

ويشير موسى في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “عروض بيع الممتلكات في الضاحية كثيرة جداً، في حين تبقى عمليات الشراء محدودة للغاية. يمكن القول إن بعض متصيّدي الفرص فقط هم من يُقدمون على الشراء، فيما تعيش السوق حالة ركود واضحة، من دون وجود إحصاءات دقيقة توثّق ذلك”.

وبطبيعة الحال، يتردد المستثمرون في ضخّ أموال جديدة في لبنان، وهو أمر بدأ مع الأزمة الاقتصادية عام 2019، لكنه ازداد مع المخاوف من التصعيد العسكري والتجاذبات السياسية الداخلية، التي ما زالت تعطّل الحلول الاقتصادية.

يؤكد الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا، أن القطاع العقاري يعيش حالة جمود شبه تام نتيجة تداخل العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية. ويضيف في حديث لموقع “الحرة” إن “غياب القروض السكنية عطّل المحرك الأساسي للسوق”.

أما فيما يتعلّق بالضاحية الجنوبية لبيروت، فيعتبر أبو شقرا أن الحديث عن “موجة بيع وشراء واسعة” غير دقيق.

ويشير إلى أن السوق لا تشهد حالة هلع بالقدر الذي يُتداول، وإن كان “بعض الناس يفضّلون البيع الآن بخسارة محدودة على أن يخسروا كلّ شيء لاحقاً إذا تفجّر الوضع من جديد، حيث تسجّل الشقق السليمة زيادة محدودة في العرض أدّت إلى تراجع في قيمتها. البيع هنا لا يعدّ تجارة، بل خطة هروب منظّمة من مصيرٍ محتمل”.

يذكر أن بنك عوده أشار في تقريره الصادر في سبتمبر الماضي، حول القطاع العقاري، إلى أنّ السوق شهدت ارتفاعاً طفيفاً في الأسعار بنسبة 10% خلال الربع الأول من عام 2025، مدفوعة ببعض العوامل السياسية، منها تشكيل حكومة جديدة.

غير أنّ هذا الانتعاش لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما تراجع مع تصاعد التوترات الأمنية منذ مارس، ما أعاد السوق إلى حالة من الجمود النسبي.

ووفقاً للتقرير نفسه، سُجِّلت في لبنان 33,297 عملية بيع خلال النصف الأول من عام 2025، بزيادة 16,390 عملية عن الفترة نفسها من عام 2024. لكن في المقابل، تراجعت القيمة المتوسطة للعقارات بنسبة 31% مقارنة بمستويات ما قبل أزمة 2019، في مؤشر إلى تحوّل الطلب نحو الوحدات الصغيرة والمتوسطة.

مقامرون على الدمار
بموازاة ظاهرة البيع القسري للشقق السكنية التي تشهدها الضاحية الجنوبية، برز نوع جديد من المستثمرين يصفهم مراقبون بـ”المقامرين بالدمار”. هؤلاء يشترون العقارات المتضرّرة أو المهدّمة بأسعار زهيدة، على أمل أن ترتفع قيمتها لاحقاً مع انطلاق عمليات إعادة الإعمار.

يقول أبو شقرا إنّ هذه الظاهرة تمثّل وجهًا آخر لما يُعرف بـ”اقتصاد الأزمات”، موضحاً أن “المالك يبيع خوفاً من ضياع حقّه في التعويض، فيما يشتري المستثمر طمعاً بالربح من الخراب بعد تحسّن الأوضاع. إنها مقامرة على مستقبل غير مضمون.”

وتتباين التقديرات حول حجم الدمار الذي لحق بالمساكن في لبنان، فيما يقدّر البنك الدولي أن نحو 162,900 وحدة سكنية تأثّرت، وأن كلفة إصلاحها تبلغ حوالي 4.6 مليار دولار.

ويشير تقرير للبنك، صدر في مارس الماضي، إلى أنّ 45,400 وحدة دمّرت كلياً، فيما تضرّرت 74,300 وحدة جزئياً، وتعرّضت 43,200 وحدة لأضرار طفيفة.

أما فيما يتعلّق بسوق الإيجارات في الضاحية، فإن “الوضع المعيشيّ الصعب جعل معظم الناس بالكاد قادرين على دفعها” كما يقول موسى، واصفاً الحديث عن حركة نزوح كثيفة من الضاحية نحو مناطق أكثر أماناً بأنه غير دقيق.

ويضيف موسى إن “أسعار الإيجارات مستقرة نسبياً حالياً، لكن إذا وقع أيّ تصعيد أو ضربة عسكرية، فمن الطبيعي أن ترتفع بسبب النزوح، أما إذا ساد الهدوء وتمّ التوصل إلى تسوية سياسية وأمنية، فحينها فقط يمكن الحديث عن انتعاش حقيقيّ في السوق العقارية”.

دور التهديدات والمسيرات
عندما يُطلق تهديد أو تحلّق طائرة مسيّرة في الأجواء، لا يمكن تجاهل الأثر النفسي لذلك لدى السكان المعنيين. وإذا كان كان العامل النفسيّ مهماً في تفسير حركة بيع وشراء العقارات في زمن السلم، فإنه يزداد أهمية في “زمن الحرب”.

تعتقد الأخصائية النفسية الدكتورة ريما بجاني أن “القلق دفع عدداً كبيراً الناس في الضاحية إلى اتخاذ قرارات جذرية لحماية أنفسهم، كبيع منازلهم والانتقال إلى أماكن أكثر أماناً، كشكل من أشكال الدفاع عن الذات”.

وتتطرّق بجاني في حديثها مع “الحرة” إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على قرارات الناس. تقول: “عندما يضاء على قضية معينة، مثل بيع المنازل أو احتمال اندلاع حرب جديدة، تتحوّل مواقع التواصل إلى مساحة تضخيم للخوف الجماعي. بعض الناس يتأثرون بسرعة فيندفعون إلى اتخاذ قرارات مماثلة، بينما آخرون يتجهون إلى النقيض، أي التشبث أكثر بمواقفهم أو بيوتهم”.

وفي ظل المخاوف من موجة تصعيد أمنيّ مقبلة وغياب الحلول للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، يطغى “القلق وأسئلة الوجود بقوة داخل البيئة الشيعية”، كما يقول الأمين وذلك “بسبب غياب الثقة بسلطة الدولة وقدرتها على أن تكون مرجعاً فعلياً للأمان والحماية، أو بديلاً مقبولاً عن دويلة الحزب”، وهو أمر يلعب دوراً في قرارات بيع وشراء العقارات.

ومن جانبه يؤكد أبو شقرا أن أيّ انتعاش مرتقب للقطاع العقاري يبقى رهن الاستقرار والإصلاحات البنيوية، قائلاً إن “عودة الاستقرار السياسي والمالي، وإصلاح القطاع المصرفي، وتفعيل القروض السكنية، وجذب الاستثمارات والمغتربين، كلها أمور كفيلة بإطلاق موجة تعافٍ تدريجي وارتفاع منطقيّ في الأسعار”.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع الحرة