يواصل سعر الذهب ارتفاعه، وحتّى كتابة هذه السطور وصل سعر أونصة الذهب إلى 4350 دولارًا، وفي ظل هذا الواقع، تبرز حركة اللبنانيّين في الاتّجاهين، الغالبيّة تشتري الذهب بهدف الإدّخار، والبعض الآخر يبيعه لتأمين مستلزمات الحياة الأساسيّة.
إلى ارتفاع أكثر
يؤكّد رئيس نقابة تجّار الذهب والمجوهرات نعيم رزق أنّ ”التوقّعات تشي بأنّ أسعار الذهب إلى ارتفاع، خلال الأشهر القليلة المقبلة“، ويقول لـ ”مناطق نت“: ”لأوّل مرّة في تاريخ البلاد يصل سعر أونصة الذهب إلى 4350 دولارًا، فقد أثبت المعدن الأصفر أنّه الملاذ الآمن ليس على مستوى الأفراد فقط وإنّما المصارف والدول أيضًا“.
يُعدّد رزق أسباب الارتفاع الراهن، فيشرح: ”الحرب التجاريّة العالميّة، الحروب المتنقّلة والمستمرّة، ومنها الروسيّة– الأوكرانيّة، وارتفاع الطلب المستمرّ على الذهب“ ويعلّق: ”طالما أنّ هذه الأسباب قائمة ولم تختفِ، سيكون المعدن الأصفر قابلًا للارتفاع أكثر“.
إقبال كثيف
وعن حركة السوق في لبنان، يقول إنّ ”الإقبال على شراء الذهب غير المشغول كثيف للغاية، حتّى إنّ أونصات الذهب بدأت تشحّ في السوق اللبنانيّة، وعمولة المصنّعة وطنيًّا زادت نحو ثلاثة أضعاف، نتيجة لارتفاع الطلب“، أمّا عن بيع الذهب ”فهو في حالات فرديّة واضطراريّة بسبب الحاجة إلى السيولة والأموال“، وقد شهد لبنان حركة نشطة في سوق الذهب خلال شهريّ آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) المنصرمين، بسبب عودة المغتربين، وفق رزق.
”قبل نحو أربعة أعوام كانت قيمة مجموع أونصات الذهب التي يمتلكها مصرف لبنان نحو 18 مليار دولار أمّا اليوم، وبعد ارتفاع سعر الذهب الكبير باتت تبلغ نحو 39 مليار“. يختم رزق
ماذا تقول الأسواق؟
الإقبال الكثيف لمسه ”وائل“ وهو أحد أصحاب متاجر الذهب في منطقة النويري ببيروت، إذ يقول: ”يُقبل الناس على شراء الذهب، لأنّ الغالبيّة لا تثق بالعملة المحلّيّة ولا حتّى بالدولار“. ويتابع لـ ”مناطق نت“: ”ما حثّهم على مثل هذه الخطوة تصاعد أسعار الذهب أكثر“.
وعن الأنواع الأكثر جذبًا للاقتناء، يشير وائل: ”الأونصة والليرات الذهبيّة“ ويضيف: ”وكأنّ الناس تتقصّد الاحتفاظ بذهبها ريثما ترتفع الأسعار أكثر، فتبيعها، إلّا قلّة قليلة منهم أتّخذت منحى معاكسًا، وقامت ببيع ما تمتلكه من الذهب لأنّها تحتاج إلى سيولة ماليّة، وتعاني ظروفًا معيشيّة صعبة“.
وسيلة للإدخار
يلجأ كثر من اللبنانيّين لا سيّما أبناء الطبقة الوسطى والميسورين مادّيًّا، إلى شراء الذهب على أنواعه المختلفة من أجل الادّخار، وتسييله عند الحاجة، تقول هبة: ”أقتطع شهريًّا مبلغًا ماليًّا من مدخولنا أنا وزوجي، وأقوم بشراء قطعة ذهب“. تتابع لـ ”مناطق نت“: ”أشعر بالأمان أكثر كلّما أصبحت بحوزتي كمّيّات أكبر من الذهب“.
ومثل هبة ثمّة لبنانّيون كثر يشترون الذهب كتقليد غير طارئ على ممارسات الأسر اللبنانيّة، لكنّ الفارق الوحيد راهنًا، هو أنّ العائلات فقدت الثقة بالمصارف وبالتالي لجأت إلى شراء الذهب كخيار بديل للادّخار. كذلك فإنّ عديدًا من العائلات باتت غارقة بتبعات الحرب وويلاتها التي لم تسلم منها بعد، وبخاصّة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيّة لبيروت.
خارجة عن إمكاناتنا
في ظلّ هذا الواقع، تعرقل الظروف الراهنة، نيّة البعض في شراء الذهب، و“سهى“ واحدة منهنّ، تقول لـ ”مناطق نت“: ”كنت أودّ لو أنّني أتمكّن من شراء الذهب للاحتفاظ به، وبيعه عند الحاجة، خصوصًا وأنّ سعره قابل للارتفاع أكثر“. وتضيف: ”لكنّني لم أتمكّن من فعل ذلك، لسبب أساس هو أنّني لا أملك دخلًا ثابتًا“ وبالتالي لا تتمكّن من خلال مدخولها الحاليّ، أن تخصّص قسمًا منه لتدّخره ذهبًا.
هذه حال كثيرين من اللبنانيّين ممّن يتقاضون اليوم راتبًا متدنّيًا أو دخلًا غير ثابت: تعلّق سهى ”منذ آذار (مارس) الماضي وحتّى مطلع الشهر الجاري، كانت المرّة الأولى التي أتقاضى فيها مستحقّات مقبولة“، وتضيف: ”تقاضيت في الأشهر السابقة بدل أتعاب لم تكن تكفي حتّى لشراء حاجاتي الأساسيّة، والتي باتت أسعارها مرتفعة للغاية“. سهى شابة ثلاثينيّة متزوّجة ولديها طفلة، تعمل في مجال الصحافة وتتقاضى بدل أتعاب متفاوت وغير ثابت.
تشاركنا سويّة
منذ العام 2019 يعيش معظم اللبنانيّين تبعات أسوأ أزمة اقتصاديّة ونقديّة تصيب البلاد، ومنذ ذلك الحين تدّنت رواتب الناس إلى حدّ كبير، وفقدت قدرتها الشرائيّة، ما جعل خيار الادّخار أمرًا خارجًا عن مقدور كثر منهم.
من جهتها، تقول الشابّة العشرينيّة ”محاسن“: ”سعيت إلى شراء ليرة ذهب، ولم أوفّق في تسديد ثمنها من راتبي الخاصّ، فتشاركت وأمّي وبتنا نمتلكها سويّة“. تعمل محاسن في إحدى صيدليّات الأشرفيّة في بيروت، كانت قد تخرّجت من الجامعة في وقت قريب، وهي تتقاضى راتبًا بالكاد يكفي احتياجاتها الأساسيّة وكلفة سكنها في بيروت. تضيف لـ ”مناطق نت“: ”سأكرّر هذا الأمر كلّما سنحت لي الفرصة، لأنّ الذهب وسيلتي الوحيدة للادّخار“.
”بعتُ كلّ ما أملك“
على عكس السائد، يلجأ البعض إلى بيع الذهب لتسيير أمورهم الحياتيّة، لا سيّما في المناطق التي عاشت حربًا دمّرت فيها المنازل والمصالح، علمًا أنّ الناس تعيش في الجنوب حال حرب غير معلنة، منذ دخول إعلان وقف اطلاق النار حيّز التنفيذ بين لبنان وإسرائيل في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، إلّا أنّ الاستهدافات الإسرائيليّة لا تزال شبه يوميّة هناك.
تروي سيّدة جنوبيّة كنيتها ”أمّ حسن“، وهي من سكّان مدينة بنت جبيل، كيف اضطرّت إلى بيع كلّ ما تملكه من ذهب، كي يعيد زوجها ترتيب أمور مصلحته، وتعلّق: ”قرّرت بيع الذهب الذي ادّخرته طوال حياتي، وبلغ ثمنه 10 آلاف دولار، كي يشتري زوجي الأدوات التي يحتاجها في عمله، في بيع الأدوات الإلكترونيّة وتوصيل الإنترنت“.
وتضيف: ”كنت أمام خيارين، إمّا أن أحتفظ بالذهب ويبقى زوجي بلا عمل وتبقى عائلتي بلا مدخول، وإمّا أن أبيعه لتيسير أمور زوجي وتحصيل مدخول مقبول أتمكّن من خلاله شراء احتياجات عائلتي اليوميّة“، وأمّ حسن ربّة منزل تهتمّ بعائلتها المؤلفة من ستّة أفراد.
هي مثل كثيرين من الجنوبيّين الذين عادوا إلى قراهم ومناطقهم بعد توقّف الحرب، لكنّ ظروفهم المعيشيّة كانت صعبة للغاية. وفي ظلّ هذه الحال، تصبح فكرة الادّخار من أجل المستقبل المجهول رفاهيّة لا يملكها جزء كبير منهم، حتّى ولو ارتفعت أسعار الذهب، خصوصًا وأنّ الناس لم تحصل بعد على أموال إعادة التعمير واقتصرت المساعدات على بدل إيواء وأثاث فقط.
بالتقسيط
”قبل فترة قصيرة بدأ شقيقي بتسديد ثمن أونصة ذهب على دفعات لدى القرض الحسن“ تقول ”منى“ لـ ”مناطق نت“ وتضيف: ”هذه هي المرّة الثانية على التوالي التي يقوم فيها بتقسيط ثمن أونصة“. يقول شقيق منى إنّه لا يريد استخدامها أبدًا، سيحتفظ بها للمستقبل المجهول كونه تزوّج حديثًا ورُزق بمولوده الأوّل.
وعن كيفيّة تسديد ثمنها، تقول منى: ”في البدء دفع ثلث قيمة الأونصة، وقام بتقسّيط المتبقّي من سعرها على دفعات خلال عام؛ خيّروه بين التقسّيط خلال فترة عام أو عام ونصف، وكلّ شخص يختار ما يناسبه“.
تثبيت السعر
وعن تفاصيل شراء الذهب عبر القرض الحسن، يقول أحد الموظّفين في المؤسّسة لـ ”مناطق نت“: ”يتمّ تثبيت سعر الأونصة أو الليرات وجدولة دفعاتها، حتّى لو تبدّلت الأسعار؛ 20 في المئة هي قيمة الدفعة الأولى والباقي يتمّ سداده على فترات مختلفة، وفق سعر الذهب نفسه، وقد تصل إلى ثلاث سنوات“.
فعلى سبيل المثال، تبلغ قيمة ليرة الذهب (عند كتابة هذا النص) نحو 950 دولارًا، وبالتالي تبلغ الدفعة الأولى لتسديد ثمنها 190 دولارًا، وهي 20 في المئة، والباقي يتمّ سداده على فترة زمنيّة تحدّد مع القرض، والحسبة نفسها تكون في حال اختار بعض الناس تقسيط أكثر من ليرة سويّة.
ويضيف الموظّف: ”يميل الناس إلى شراء وتقسيط الذهب بالفترة الأخيرة، لا سيّما أبناء الدخل المحدود الذين لا يتمكّنون من دفع ثمنها مباشرة (كاش)“، ويختم: ”بالنسبة إلى القرض لا خسارة تقع على عاتقه بعد ارتفاع سعر الذهب، إذ هو بدوره يقوم بتثبيت السعر مع التجّار“.
النقود بلا قيمة
من جهته يرى الخبير الاقتصاديّ باتريك مارديني أنّ ”القدرة الشرائيّة لمعظم العملات، الدولار واليورو وغيرها، انخفضت مع مرور الزمن، فبرز دور الذهب الذي يحافظ على قدرته الشرائيّة كبديل عن الأموال النقديّة، في ظلّ تضخّم عالميّ مدفوع بطباعة النقود“.
ويضيف مارديني: ”يحدث ذلك بالتوازي مع ارتفاع أداء الأسواق الماليّة العالميّة، وكذلك، زيادة احتياط المصارف المركزيّة حول العالم، من الذهب وبشكل كبير؛ كلّ هذه العوامل ساهمت في زيادة الطلب على الذهب وبالتالي ارتفاع سعره“.
ويعلّق مارديني: ”طالما أنّ هذه العوامل ثابتة وغير متبدّلة، فإنّ الذهب سيبقى في مستوياته الحاليّة“، ويختم: ”تاريخيًّا، اعتاد اللبنانيّون ادّخار أموالهم في المصارف، ولكن مع انخفاض الثقة بالقطاع المصرفيّ بسبب الأزمة الراهنة، لجأ الناس إلى أصول بديلة، ومنها الذهب“.
وراهنًا بات الذهب الأكثر اقتناءً على شكل مدّخرات، يبيعها الناس لاحقًا لتحقيق الأرباح أو عند الحاجة، ولكن يبقى السؤال الأهمّ: هل سيستمر الذهب في ارتفاعه وعند أيّ حدٍّ سيتوقّف؟