زيادة أسعار المحروقات: خطوة غير مدروسة في وقت حساس

المحروقات

لطالما كان لبنان بلدًا غارقًا في التناقضات، بلد المقوّمات و الإمكانيات الواسعة، لكنّه في المقابل يعيش دوامة من الأزمات المتكررة التي تعيد عقارب الزمن إلى الوراء في كل مرة يُظنّ فيها أن صفحة جديدة تُفتح. هو وطن لطالما تأمّل أبناؤه بالتغيير، و علّقوا آمالهم على محطات سياسية مفصلية، اعتبروها بداية عبور نحو مستقبل أفضل، غير أنّهم كثيرًا ما وجدوا أنفسهم محاصرين بواقع مرير، يعيد إنتاج المآسي نفسها و إن بوجوه و أساليب مختلفة.
واليوم، و كما كان ينتظر اللبنانيون أن يشعروا بنيّة حقيقية في تحقيق إصلاحات تنقذهم من الواقع المأساوي الذي امتدّ سنوات طويلة، نتيجة الفساد و انعدام المحاسبة، صدموا بزيادة ترفع أسعار المحروقات، في وقت حساس جدًاyy على مختلف الأصعدة.
ضمن الإطار المذكور، أجرى “ديموقراطيا نيوز “، لقاءًا مع الخبير الإقتصادي باتريك مارديني، حول دلالات و تأثير قرار زيادة المحروقات على الشعب اللبناني و الواقع الضريبي بشكل عام في لبنان و الإصلاحات المطلوبة.

الإصلاحات تتطلب وقتًا طويلًا في ظل الأزمات البنيوية!!

قدّم الخبير الإقتصادي مارديني قراءة واقعية و موضوعية للواقع الاقتصادي والمالي في لبنان، مشددًا على ضرورة الفصل بين تقييم المرحلة الحالية وسياسات العهد القائم، و بين ما ورثه من أزمات بنيوية عميقة.

و اعتبر مارديني أنه “من المجحف القول إن العهد الحالي يعيد إنتاج أساليب الحكومات السابقة”، لافتاً إلى أن التركيز الحصري على موضوع المحروقات و الصوْب عليه بشكل منعزل لا يعكس حقيقة التوجهات العامة ولا حجم الورشة الإصلاحية المطروحة.

بحسب مارديني، فإن العهد الحالي استطاع أن يخطو خطوات لم تكن ممكنة في السابق، من بينها إجراء الإنتخابات البلدية التي تعتبر ركيزة للحكم المحلي، إلى جانب مساعٍ جادة لتعيين هيئات ناظمة في قطاعات حيوية، و هو ما يصب في اتجاه تحقيق الحوكمة وتعزيز الشفافية. و أشار إلى أن بعض الإصلاحات القضائية التي بدأت تشق طريقها تشكّل نقطة إيجابية، لكنها غير كافية بالنظر إلى حجم التحديات. إذ ذكر مارديني: ” إن الورشة كبيرة جدًا، و الستة أشهر التي مضت لم تكن كافية لتحقيق تغييرات ملموسة في واقع مأزوم إلى هذا الحد”.

و في ما يخص ملف المحروقات، أوضح مارديني أن الطرح كان متسرعًا لأسباب متعددة، خصوصًا أن تسعير المحروقات و فرض الضرائب عليها يرتبط ارتباطًا مباشراً بالرؤية الأوسع للسياسة الضريبية في لبنان، و بموقع هذا القطاع ضمن خطة إعادة هيكلة القطاع العام.

برأيه، إن الطريقة المثلى لتمويل أي زيادة، سواء على صعيد الرواتب أو دعم الخدمات، لا يجب أن تكون عبر إثقال كاهل المواطن، بل من خلال تخفيض عدد موظفي القطاع العام، الذين يشكّلون فائضًا كبيراً و يكلّفون الخزينة دون أي إنتاجية فعلية.

كما اعتبر أن هذا الفائض لا يثقل المالية العامة فحسب، بل يحرم القطاع الخاص من كفاءات يحتاج إليها بشدة. من هنا، أي زيادة في الرواتب يجب أن تترافق مع تخفيض في عدد الموظفين غير المنتجين، و الذين تشير بعض التقديرات إلى أنهم يشكلون نحو 50% من الجسم الإداري، مما يجعل إعادة الهيكلة حتمية.

من ناحية أخرى، لفت مارديني إلى أن الرؤية المنشودة في ملف المحروقات لا يجب أن تكون بتمويل البيروقراطية غير المنتجة، بل بتوجيه العائدات نحو دعم القطاعات الحيوية و تحفيز الإنتاج، مركّزًا على ضرورة إعادة هيكلة شاملة للنظام الضريبي اللبناني.

من ناحية أخرى، أشار في حديثه إلى أن بعض الضرائب، مثل الجمارك و ضريبة الدخل، لا تحقق مردودًا فعليًا للدولة نتيجة التهرّب وسوء التطبيق، معتبرًا أن الضرائب غير الفعالة يجب أن تُلغى، لأنها لا تحقق أهدافها، بل تعرقل الحركة الإقتصادية و تزيد الضغط على المواطن.

و شدّد في حديثه أيضاً، بأن فعالية النظام الضريبي تقاس بقدرته على جمع إيرادات حقيقية دون تقويض النشاط الإقتصادي، و لهذا يرى أن الميل يجب أن يكون نحو ضرائب الإستهلاك، ولكن بشرط إلغاء الضرائب الأخرى التي لا تحقق مدخولاً. وفقاً له، يمكن أن يخلق هذا التوجه بيئة أكثر تنافسية، خصوصاً أن لبنان يعاني من ضعف في البنية التحتية و من أوضاع أمنية متقلبة، و يحتاج بالتالي إلى حوافز ضريبية تشجع على جذب الإستثمارات.

و خلص مارديني إلى أن التراكم الضريبي غير المدروس هو ظلم مباشر للمواطن، و يؤدي إلى بطالة مرتفعة، لذلك لا بد من إعادة نظر جذرية في السياسة الضريبية، تميّز بين ما هو فعّال و ما هو عبء، و تعيد التوازن إلى دور الدولة الاقتصادي.

أخيراً، و في ظل هذا الواقع المركّب، يبقى التحدي الأكبر هو الانتقال من الشعارات إلى الأفعال، ومن إدارة الأزمات إلى معالجتها جذريًا. فلبنان لا ينقصه التشخيص، بل الإرادة و القدرة على تنفيذ إصلاحات حقيقية تضع مصلحة الدولة فوق الاعتبارات السياسية و الفئوية. و إذا كان التغيير لا يزال ممكنًا، فهو لن يتحقق إلا عبر رؤية واضحة، و قرارات جريئة، و محاسبة فعلية، تعيد بناء الثقة بين الدولة و المواطن، و تفتح الباب أمام مرحلة جديدة تضع المواطن فوق كل اعتبار.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع ديموقراطيا