سجل مؤشر الأسعار في شهر كانون الثاني 2025 ارتفاعًا بنسبة 16% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي. بالمبدأ، يُحتسب التضخم لكل شهر مقارنة بنفس الشهر في العام السابق، وفي نهاية السنة يُجمع المعدل العام لتلك المعدلات ليُحتسب معدل التضخم السنوي. لكن في لبنان، حيث تتواصل الزيادة بشكل غير طبيعي منذ الانهيار الدراماتيكي لسعر النقد وانهيار القطاع المصرفي، يتطلب الأمر احتساب التضخم وفق مراحل محددة.
بداية، حدث الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة، مما ساهم في تضخم الأسعار بشكل موجع. ومن ثمّ، شهد سعر الصرف استقرارًا نسبيًا، إلا أنّ الأسعار استمرت في الارتفاع، ولو بوتيرة أقل. ويعود ذلك جزئيًا إلى التضخم المستورَد. فلبنان يستورد 90٪ من المنتجات الاستهلاكية. هكذا ترتبط الأسعار في السوق اللبنانية بأسعار وتضخم بلد المنشأ. إلى ذلك يضاف الزيادات الناجمة عن ارتفاع أكلاف الشحن عالميًا. وأخيرًا، يأتي جشع التجار لزيادة نسب الأرباح التجارية، خصوصًا إن ازداد الطلب على سلعة ما. ومع بدء شهر رمضان، يجد المواطن نفسه غارقًا في دوامة الغلاء الفاحش، حيث لامست الأسعار، خصوصًا أسعار المواد الأولية، مستويات هستيرية.
العرض والطلب في عين الأزمة
في اتصال مع جريدة “الأخبار”، يوضح الاقتصادي د. باتريك مارديني، ان سبب ارتفاع الأسعار ليس مربوطًا بالعرض، بل بالطلب. فالناس تتهافت لشراء السلع، ما يزيد الطلب عليها. هذا الطلب المتزايد هو الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع. وليس من الضروري أن يوجد تلاعب من قبل التجار، بل هي زيادة طبيعية ناتجة عن ديناميكيات السوق”.
وفي تفسيره لهذه الظاهرة، يشرح مارديني أن “الأسواق عادةً ما تتأقلم مع مثل هذه الارتفاعات في الطلب من خلال استيراد المزيد من السلع، مما يساعد على إعادة الاستقرار للأسعار. ولكن مع حلول شهر رمضان، والذي يشهد ارتفاعًا في الطلب ليس فقط في لبنان بل في الدول المحيطة، يصبح تحقيق هذا التوازن أصعب، ما يؤدي إلى استمرار الزيادة في الأسعار”.
دور وزارة الاقتصاد
عن دور وزارة الاقتصاد، يعتبر مارديني أن “التدخل الحكومي المباشر لتحديد الأسعار قد يأتي بنتائج عكسية. غالبًا ما يتداول الناس فكرة أن الوزارة يجب أن تتدخل لتحديد الأسعار وإيجاد حلول لتثبيت الأسعار. ولكن الحقيقة هي أن السوق هي التي تحدد الأسعار. لذا، أي تدخل من الوزارة قد يؤدي إلى نقص السلع أو حتى إلى ظهور سوق سوداء، كما حدث عندما حاولت الحكومة تحديد أسعار البنزين والمازوت، مما أدى إلى انقطاعهما من الأسواق”.
ويرى مارديني أن “الحل يكمن في تدخل الوزارة على المدى الطويل وليس من خلال وضع قيود على الأسعار، بل عن طريق معالجة المشكلات الهيكلية التي تؤدي إلى ارتفاع التكاليف. وأبرز هذه المشكلات هي الاحتكارات وارتفاع تكلفة الإنتاج المحلي، خاصة في القطاع الزراعي”.
وعن الاكلاف الزراعية المترنحة بين كلفة المحروقات وغياب الدعم، ما يشكل أحد العوامل الأساسية لارتفاع أسعار المنتجات الزراعية، يؤكد مارديني أنّ “المواد الزراعية في لبنان غالية لأن الزراعة تحتاج إلى ري، والمزارع يدفع مبالغ كبيرة لتأمين المياه بسبب غلاء المحروقات اللازمة لتشغيل المضخات. إذا تمكنت الدولة من معالجة أزمة الكهرباء، سيصبح بإمكان المزارعين تخفيض تكاليف الإنتاج، وبالتالي تقليل أسعار الخضروات في السوق المحلية”.
تفكيك الاحتكارات وتسهيل التجارة الدولية: حلول طويلة الأمد
في سياق متصل، يشدد مارديني على “أهمية اتخاذ خطوات جادة لتفكيك الاحتكارات التي تؤدي إلى رفع الأسعار، بالإضافة إلى تخفيف القيود المفروضة على الاستيراد”. ويقول إن “تفكيك الاحتكار سيساهم في خفض الأسعار، إلى جانب تسهيل التجارة الدولية وتقليل القيود على الاستيراد. لبنان يستورد معظم المواد الغذائية، ولذلك يجب تخفيف القيود الجمركية وغير الجمركية لتسهيل تدفق السلع إلى السوق اللبنانية”.
إجراءات من هذا النوع ستساعد في تعزيز التنافسية في السوق المحلي، مما يساهم في استقرار الأسعار على المدى الطويل. وبدلاً من التركيز على التدخلات القصيرة الأمد مثل تحديد الأسعار، يجب على الحكومة تبني إصلاحات هيكلية تعالج الأسباب الجذرية للغلاء..فهل تفعلها الحكومة الجديدة؟