يعود الجدل حول تشغيل مطار القليعات في لبنان (مطار الرئيس رينه معوض) الذي يقع في أقصى شمال لبنان قرب الحدود مع سورية، إلى الواجهة مجدداً، بعدما ذكرته الحكومة الجديدة في بيانها الوزاري، واعدة بتشغيله نظراً لدوره التنموي، وسط انقسام بين مؤيدين يرونه فرصة لتعزيز الاقتصاد المحلي، ومعارضين يعتبرونه مشروعًا غير مجدٍ يُطرح فقط في سياق الجدالات السياسية.
وبينما يعاني مطار رفيق الحريري الدولي من ضغوط تشغيلية واحتكارية، يطرح البعض خيار فتح مطارات إضافية لتخفيف العبء عنه وكذا خلق خيار آخر للسفر كون مطار بيروت يقع بمحاذاة ضاحية بيروت الجنوبية، ما يجعله عرضة للغلق بسبب الاحتجاجات السياسية التي يقودها أنصار حزب الله عادة، وأيضاً عرضة للتهديدات الإسرائيلية كما حصل في الحرب الأخيرة، فيما يشكك آخرون في الجدوى الاقتصادية والقانونية لمطار القليعات، نظرًا لموقعه الجغرافي وبنيته التحتية غير المؤهلة.
يرى الخبراء أن تشغيل المطار قد يساهم في تنمية شمال لبنان وتحفيز القطاعات اللوجستية والسياحية، لكنه في المقابل يواجه تحديات كبيرة، منها الحاجة إلى استثمارات ضخمة، والقيود القانونية، والمنافسة الإقليمية. وقال الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، في حديث خاص مع “العربي الجديد”، إن وجود مطار وحيد في لبنان يشكّل عاملًا سلبيًا، بغض النظر عن الاحتجاجات الأخيرة، والاعتبارات اللوجستية، والتدخلات السياسية.
وأوضح أن السياحة، التي تُعدّ عصب الاقتصاد اللبناني، تساهم بحوالي 7 مليارات دولار من الناتج المحلي، أي ما يعادل 40% من إجمالي الناتج البالغ نحو 18 مليار دولار. وبالتالي، من غير المقبول أن يعتمد هذا القطاع الحيوي على مطار واحد فقط، ما يشبه إنسانًا يتنفس برئة واحدة. الحاجة إلى مطار إضافي وأشار مارديني إلى أن لبنان بحاجة إلى مطارات إضافية، وليس فقط إلى تشغيل مطار القليعات، داعيًا إلى فتح قطاع المطارات أمام المنافسة، بحيث تتولى الدولة الجانب الأمني، فيما يمكن للقطاع الخاص الاستثمار في تشغيل المطارات وإدارتها.
وأوضح أن تشغيل أي مطار يتطلب شقّين: الأول هو البنية التحتية التشغيلية، مثل المدارج وقاعات الركاب، والثاني هو الخدمات اللوجستية التي تسهّل حركة المسافرين، لافتاً إلى أن شركات الطيران الخاصة قد تستثمر في تشغيل وتأهيل المطارات، بدءًا من بناء المدارج والصالات وصولًا إلى توفير العمالة والصيانة، مقابل الحصول على حقوق التشغيل واستقطاب شركات الطيران.
وأضاف مارديني أن شركات الطيران ذات التكلفة المنخفضة (Low Cost Airlines) لا تُسيّر رحلات إلى مطار بيروت بسبب ارتفاع تكاليفه، كما أن هناك احتكارًا في السوق، مما يمنع شركات جديدة من دخول القطاع. لذا، فإن تشغيل مطار القليعات يمكن أن يشكل فرصة لاستقطاب هذه الشركات. وأشار إلى أن الشركة المشغّلة لمطار القليعات يمكن لها جذب شركات الطيران عبر تقديم خدمات بأسعار أقل، ما يتيح للمسافرين خيارات أقل كلفة. وذلك في ظل التوظيف القائم على المحسوبيات السياسية، الأمر الذي يؤدي إلى تضخّم النفقات والاستثمارات غير المدروسة.
وتابع مارديني بالقول إن وجود مطار إضافي يعزّز المنافسة، ويخفض كلفة السفر، ويحسّن مستوى الخدمات، ما لا ينعكس إيجابيًا فقط على اللبنانيين المغتربين، بل يساعد أيضًا في جذب السياح من الطبقة الوسطى أو الأقل دخلًا، الذين قد يعزفون عن زيارة لبنان بسبب ارتفاع أسعار التذاكر. فعلى سبيل المثال، تبلغ كلفة التذكرة من فرنسا إلى لبنان نحو 600 دولار، في وقت إن السفر إلى تركيا لا يكلف أكثر من 100 دولار. لذا، فإن استقطاب شركات الطيران منخفضة التكلفة عبر مطار إضافي يمكن أن يساهم في زيادة أعداد السياح، وبالتالي تحفيز الاقتصاد اللبناني.
مخالفات وأوهام؟
على النقيض من ذلك، صرّح رئيس اتحاد النقل الجوي، علي محسن، في حديث مع “العربي الجديد”، بأن موضوع تشغيل مطار القليعات غير واقعي، لأنه من الناحية القانونية مخالف لمعايير سلامة الطيران الدولي، بالإضافة إلى اعتبارات أخرى تتعلق بالجغرافيا والسياسة والاقتصاد.
وأشار إلى أن إثارة هذا الموضوع تتكرر مع كل استحقاق انتخابي، حيث يعود مطار القليعات إلى الواجهة. وأضاف محسن أن البعض يبيع اللبنانيين وهمًا يتعلق بتشغيل المطار لأغراض انتخابية. وبالعودة إلى التاريخ، أوضح أنه في عام 1980، استُخدم المطار استثنائيًا من قبل شركة طيران الشرق الأوسط، نظراً لأن مطار بيروت الدولي كان في منطقة حرب، إلا أن استخدام مطار القليعات كان صعبًا جدًا من الناحية اللوجستية، كونه في الأصل مطارًا عسكريًا، ويتطلب تكلفة مرتفعة جدًا ليتم تحويله إلى مطار مدني مماثل لمطار بيروت الدولي.
وأكد محسن أنه، من الناحية القانونية، يجب أن يبعد أي مطار دولي عن مطار آخر مسافة لا تقل عن 500 كيلومتر. ولفت إلى أن هناك فرقًا بين المطار الداخلي والمطار الدولي، موضحًا أن مطار حلب في سورية يبعد عن مطار دمشق 500 كلم، بينما مطار اللاذقية غير مرخّص دوليًا، بل هو مطار عسكري، ويبعد عن مطار القليعات في لبنان حوالي 100 كلم.
وبسبب المساحة الجغرافية المحدودة للبنان (10452 كيلومتراً مربعاً)، لا يمكن إنشاء مطار دولي ثانٍ، حيث يُسمح فقط بوجود مطار دولي واحد. كما أن المسافة بين مطار بيروت ومطار دمشق تبلغ نحو 100 كلم فقط.
مركز للشحن الجوي
وأفاد الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان في حديث خاص مع “العربي الجديد” بأن هناك دراسات وأفكاراً طُرحت لتحويل مطار القليعات إلى مركز إقليمي للشحن الجوي، خاصة في ظل الحاجة إلى بنية تحتية لوجستية تدعم الصادرات اللبنانية. وأضاف أن الموقع الجغرافي للمطار في شمال لبنان يجعله مناسباً ليكون بوابة جوية للأسواق الإقليمية، خاصة مع تطوير المنطقة الحرة وربطه بالموانئ القريبة مثل مرفأ طرابلس. لكن حتى الآن، لم تُترجم هذه الأفكار إلى خطط تنفيذية واضحة بسبب العقبات السياسية والاقتصادية.
وإذا كان المطار سيؤثر على المناطق الشمالية، اعتبر أبو سليمان أن تطوير المطار سيساهم في إنعاش الاقتصاد المحلي من خلال خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، وتحفيز قطاعات مثل النقل، والخدمات اللوجستية، والصناعة، والزراعة. كما قد يجذب استثمارات في التخزين والتبريد والتوضيب، ما سيزيد من القيمة المضافة للمنتجات المحلية. وأكد أنه إذا تم دعمه بتحديث البنية التحتية، فقد يصبح رافعة اقتصادية لشمال لبنان ومنطقة عكار التي يقع فيها المطار، وهي أفقر منطقة في لبنان على الإطلاق.
من جانب آخر، أشار أبو سليمان إلى وجود عدة مخاطر اقتصادية محتملة، أبرزها عدم الاستقرار السياسي والأمني، مما قد يثني المستثمرين عن ضخ رؤوس أموالهم في مشاريع طويلة الأمد. بالإضافة إلى ضعف البيئة الاستثمارية في لبنان، بسبب الأوضاع المالية العامة، وانخفاض ثقة المستثمرين، وصعوبة الوصول إلى التمويل. كما أن البنية التحتية ضعيفة في الشمال، ما قد يستدعي استثمارات ضخمة لتطوير الطرق والمرافق اللوجستية.
وأخيرا، المنافسة الإقليمية من مراكز شحن قوية مثل مطارات دبي والدوحة وإسطنبول، ما يفرض تحديات في جذب خطوط الشحن الجوي. وأضاف أبو سليمان أن تشغيل المطار يمكن أن يكون له دور كبير في دعم الصادرات اللبنانية، خاصة الزراعية والصناعية، التي قد تستفيد من وجود مركز شحن جوي فعال يسرّع وصولها إلى الأسواق الخليجية والأوروبية.