درجت منذ مدّة سرقة خطوط الكهرباء، وطالت جميع المناطق اللبنانيّة دون استثناء، حتى أن الناس ما عادوا يتفاجؤون بمناظر الأعمدة العارية في المناطق النائية. رغم فداحة هذه الأعمال الجرميّة، لم يكن لها على المشتركين ذلك الوقع الثقيل، فبالكاد كانوا يحصلون على ساعتي تغذية طيلة 24 ساعة. أما وقد باتت السرقات تهدّد السلامة العامة، فذلك أمر مختلف تماماً.
آخر الابتكارات الجرميّة، كانت سرقات أبواب محطات التحويل الهوائيّة، تلك الموزّعة على الطرقات العامة، وفي الأحياء، وبين المنازل. ما هي هذه المحطات؟ وما مدى خطورتها إذا كانت منزوعة الأبواب؟
محطة التحويل، عبارة عن مجموعة تجهيزات مثبّتة على عمودين حديديين متقاربين. القسم الأسفل، صندوق حديديّ يحتوي على لوحة تشغيل، عليها القاطع الرئيسي، و”الفواصم” أو ما يُعرف بالفيوز، وغيرها… تتصل جميعها بالمحوّل، أو transformateur، المثبّت في القسم الأعلى. مهمّة هذا الأخير، تحويل التيار من جهد كهربائي بقوّة 5500 Volts، أو 15000 V، أو 20000 V بحسب المحوّل المركزي، إلى جهد كهربائي بقوّة 220 V، يوزَّع على المشتركين. كما تتراوح قدرة المحول الواحد بين 50 KVA و1000 KVA، بحسب كثافة المشتركين ضمن شعاع بطول 1000 م حول المحوّل.
هذه القدرة الكهربائية القاتلة، معزولة عن محيطها ببابين حديديين محكمي الإقفال. أو هكذا يجب أن تكون. لكن مؤخراً، تكرّرت حالات سرقة أبوابها، فباتت مشرّعة للريح وللمطر ولعبث الجاهلين بخطورتها، مما قد يجعلها أداة تقتل كل من يقترب منها، أو بالحدّ الأدنى من الضرر، عرضة للاشتعال وإتلاف محتوياتها، والتسبب بإتلاف أجهزة الكهرباء المتصلة بالتيار.
في جولةٍ في منطقة الجبل- بدءاً من أولى البلدات بعد الخط الساحلي في الشوف، “دميت” وصولاً إلى “باتر” وهي آخر بلدة قبل محافظة الجنوب على طريق الدامور- جزين- أحصينا وجود 19 محطة هوائية، ومحطتين مبنيّتين، جميعها على الطريق العام. تلك غير التي تتوزّع على الطرقات الفرعيّة أو في الأحياء. فكان بينها تسع محطات منزوعة الأبواب، أو مخلوعة الأقفال. فيما بقيت عشرٌ منها آمنة، بالإضافة إلى المحطتين المبنيّتين (غرفتين من الإسمنت). أي بمعدّل 42.85 في المئة منها غير آمن. فما الذي يحول دون الإسراع في درء الخطر؟
التكلفة البشرية فوق كلّ الأثمان
يرى غسان بيضون، الخبير في المعهد اللبناني لدراسات السوق، ومدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه، أنه “بغض النظر عن التكلفة التي قد يرتبها إهمال صيانة هذه المحطات، من حرائق أو أعطال أو غيرها، إلا أنها مسؤولية توجب الإسراع بتنفيذ ما هو مطلوب لحماية الناس. وأي تأخير يعتبر جرم إهمال، يشكّل خطراً مباشراً على السلامة العامة”. ويرى أن “المسؤولية تقع أولاً على مؤسسة كهرباء لبنان، ومن بعدها، على الشركة العاملة في النطاق”. يتابع: “إن شركات مقدّمي الخدمات، تتقاضى فواتير مضخّمة، تفوق ما يمكن أن تنفقه المؤسسة بأضعاف إذا ما قامت هي بالأشغال ذاتها التي تقوم بها هذه الشركات، لذلك على المؤسسة أن تطلب منها التحرك السريع في التنفيذ. أما وزارة الطاقة، فتشترك بالمسؤولية إذا أخذت علماً بذلك. ومن الضروري أن تأخذ علماً خطياً من خلال كتاب يُرسل مباشرة للوزير”.
نزولاً عند رغبة وزير الطاقة والمياه، وليد فياض، باقتصار المكالمات على الرسائل النصية عبر تطبيق واتساب، (only text please)، توجَّهنا إليه بأسئلة أربعة توضح حجم المشكلة، وتفي بغرض تحميل المسؤوليّة للجهة المقصّرة، أكانت الوزارة، أو مؤسسة كهرباء لبنان، أو شركة NEUC؟ ثم انتظرنا لثلاثة أيام، لكننا لم نتلقَّ أي إجابة
مقدّمو الخدمات “خارج السمع”
يقول عضو مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان المهندس سامر سليم: “منذ استلام شركات مقدّمي الخدمات للمهام الموكلة إليها بموجب العقود الموقّعة بينها وبين مؤسسة كهرباء لبنان، تفاوت عملها بين الجيد والرديء، وكانت الذريعة دائماً العامل المادي المتمثّل بالشح في تحويل المستحقات. لكن مجلس الإدارة، عمل على خفض النفقات وحصرها بالأمور الضرورية. ترافق ذلك مع تعديل في تعرفة الكهرباء بما يتناسب مع التكاليف، ما خلق، ولأول مرّة منذ أعوام عديدة، حالة من الانتعاش. فوصل حساب المؤسسة في مصرف لبنان إلى حدود 150 مليون دولار أميركي، وانتقلت من مؤسسة تستنزف الخزينة العامة إلى مؤسسة منتجة. ومنذ بضعة أشهر، بدأَت بتحويل المستحقات الماليّة العائدة للشركات بشكل أسبوعي، فانتفت الأعذار، وبات على هذه الشركات تحمّل المسؤولية الكاملة في تنفيذ كل ما يُطلب منها، ومن ضمنها، إعادة تأهيل المحطات المتضرّرة، كونها تتعلّق بالسلامة العامة، وهي من الأولويات التي وضعها مجلس إدارة المؤسسة في صلب اهتمامه منذ تعيين أعضائه الجُدد”.
أما مشروع مقدمي الخدمات، فقد كان موَقّتاً لا يتعدى العمل به الأربع سنوات. وقد ورد في ورقة سياسة قطاع الكهرباء، ووافقت عليه الحكومة في العام 2010 لينطلق العمل به في العام 2012.
اليوم، هناك أربع شركات متعاقدة مع مؤسسة كهرباء لبنان، تتولى تقديم الخدمات المتعلّقة بالقطاع، منها الشركة الوطنية للخدمات الكهربائية NEUC، التي حاولنا التواصل مع إدارتها كون المحطات المتضررة تقع ضمن نطاق عملها، لكننا لم نتلقَّ أي إجابة. لذلك توجّهنا إلى رئيس دائرة كهرباء بيت الدين، المهندس وسيم نصر، حيث أطلعنا على اقتراحات، من شأنها أن تمنع استمرار هذه الظاهرة الخطرة.
مراسلات واقتراحات، فهل من مجيب؟
“كلّ الأجهزة الأمنية أخذت علماً بالجرم الحاصل”. في هذا الإطار يشرح وسيم نصر أنه “أرسل أكثر من كتاب وأكثر من إحالة لكلّ من يعنيه الأمر. وطلب من السلطات المختصّة مراقبة مراكز تجميع الخردة ومنعهم من شراء كلّ ما له علاقة بشبكات وتجهيزات مؤسسة كهرباء لبنان”، ويقول: “اقترحنا على الشركة المقدّمة لخدمات الكهرباء ضمن النطاق، ومن مهندسين مختصين دراسة إمكانية استبدال الأبواب الحديديّة بأخرى من البلاستيك أو الخشب، أو حتى من الفايبر، ونحن ننتظر الموافقة عليها من إدارة مؤسسة كهرباء لبنان”.
حتى ذلك الحين، وقبل أن يأتي الردّ بالموافقة أو بعدمها، يبقى الحلّ الأمثل لدرء الخطر الإسراع في تركيب أبواب هذه المحطات، التي لا يساوي ثمنها كلها تكلفة ليلة واحدة في قسم العناية الفائقة لشخص قد يُقدَّر له أن يكون ضحية الإهمال أو الفساد. هذا، والمقارنة ما زالت ماديّة فقط، لأن أي ضرر بشري لا يقارن بالمال.