الجواب يأتي من الدستور الذي نص على إنشاء ديوان المحاسبة، وأوجب تقديم حسابات المالية العامة إليه مع نتائج تنفيذ موازناتها، سنوياً، ليتولى تدقيقها ووضع ملاحظاته حول مدى التزام الحكومة بسقوف الإنفاق المسموح به ومدى تحقيق الإيرادات المفترض أن تغطيها، ومدى الانحراف في كليهما، وذلك لكي تأخذها السلطة التشريعية بعين الاعتبار في إقرار موازنة جديدة يؤذن فيها للحكومة بتنفيذها.
ماذا لو لم يتم إعداد أو تقديم حسابات المالية العامة الختامية و/أو لم يتم تدقيقها لبيان مدى صحتها ووضع الملاحظات عليها لتبني السلطة التشريعية قرارها بشأن مشروع قانون الموازنة العامة المعروض عليها، استناداً إلى تلك النتائج والملاحظات؟
إن ما حصل فعلياً في لبنان هو أن التعذر قد استمر وتفاقم التأخّر، وأصبح الاستثناء المتمادي مقبولاً وكأنه هو القاعدة، وبدا أن الأمور تجري بعكس المرتقب. وقد زاد المشكلة تعقيداً «تطوير» النظم المحاسبية في وزارة المالية والانتقال من النظام اليدوي إلى المعلوماتية الممكننة، وتأخّر ديوان المحاسبة في تقييم مخاطر هذه النظم المفترض أن ينطلق منها في أي تدقيق، بهدف وضع برامج التدقيق اللازمة انطلاقاً من نتائج تقييم فعالية ضوابطها وتطبيقاتها ودرجة الأمان والثقة التي يمكن أن توفره، فضلاً عن التحقق من تطابقها في ما بينها ومعالجة الثغرات التي كانت ما تزال تكتشف حتى الأمس القريب؛
إن مقاربة تعقيدات واقع المالية العامة وحساباتها ومدى فعالية وجديّة الرقابة عليها، والبحث في الظروف المحيطة بها، وفي الأسباب والعوامل التي أدّت إليها وساهمت في تفاقم مخاطرها، يطرح السؤال حول أسباب وظروف وخلفيات هذه التعقيدات، والوسائل الأنجع للخروج من المأزق الذي شكّل التأخّر في إعداد الحسابات المالية العامة وبالتالي في ممارسة الرقابة، السبب المباشر للوقوع فيه: ويقتضي الخروج منه معالجته واستدراك النتائج السلبية لهذا التأخّر.
أما نتائج الفساد في إدارة شؤون الدولة ومصالح المواطنين فتنعكس نتائجها في الانتقاص من حقوق الدولة أو زيادة في عجز الموازنات والدين العام وأعباء فوائده، وتفرض نتائجه كأمر واقع، فيتحمّل المواطن المكلف بالضريبة تبعات وأعباء تكلفة هذين العجز والدين بالنتيجة، وتلتزم الأجيال القادمة بسداد أقساطه، فيتشكّل بذلك جسر يوصل يد الفساد والفاسدين في السلطة إلى مختلف أشكال الثروة الوطنية وأصول الدولة وأملاكها ومرافقها.
وللشفافية الضريبية أيضاً علاقة مباشرة بشفافية الموازنة وهي لا تقتصر في هذا المجال على تفصيل وتبرير احتساب أرقام تقديراتها. وهي تستوجب توفير قاعدة معلومات واقعية حول مختلف فئات المكلفين ومستويات أنشطتهم وتطور مستويات هذه الأنشطة.
وحيث أن الإدارة الضريبية هي الجهاز المكلف بتطبيق نصوص التشريع الضريبي، والتحقق من سلامة هذا التطبيق حفاظاً على حقوق الدولة وحقوق المكلفين في آن معاً؛ وتقتضي أهمية دورها أن تتمتع بكفاءة عالية وتكون قادرة غلى تنفيذ القوانين الضريبية بعدالة من خلال عدة أدوات على رأسها الالتزام بالشفافية الضريبية، باعتبارها عاملاً مهماً في رفع كفاءة هذه الإدارة، عن طريق الالتزام بالإفصاح عن المعلومات الضرورية وتبسيط الإجراءات الضريبية سواءً بالنسبة للموظفين، بما يساهم في تحسين أدائهم والمحافظة على الحصيلة الضريبية وحفظ المال العام، أو بالنسبة للمكلفين بالضريبة من أجل كسب ثقتهم ورفع الوعي الضريبي لديهم لزيادة الامتثال الضريبي.
إن الخروج من الواقع الراهن لمالية الدولة الشديد التعقيد يستدعي مباشرة البحث في سبل تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد على مختلف مستويات حركة المالية العامة، بدءاً من إعداد موازنة الدولة للعام 2025، وبنائها على أرقام واضحة في احتساباتها وعادلة في تكوينها، والعودة عن الممارسات الخاطئة المرتكبة في إعداد موازنات السنوات الأخيرة، لا سيما بالنسبة إلى احتساب الضرائب وتقدير حجم «الصحون» الضريبية على أسعار صرف مختلفة، «غير رسمية» وغير صريحة، مع بقاء دولار رواتب القطاع العام والمتقاعدين دون هذه الأسعار، برغم التأثير المباشر لهذه الرواتب على مستوى ونوعية أداء هذا القطاع، ومن أهمية تفعيل وتصويب وتطوير هذا القطاع بمختلف مرافقه، لتحفيز النمو خلال المرحلة القادمة، حيث يخشى أن يتكرّس الفساد، الذي استشرى واتسع انتشاره بسبب هذا الإجحاف الذي ساهم في تراجع الرادع الأخلاقي أمام الحاجة لتأمين الحد الأدنى من حاجات الموظف بما يحفظ كرامته كإنسان وجعله، نتيجة الشعور بالظلم، فريسة سهلة لوحش الفساد المستشري في غياب الرقابة وعجز الدولة؛ وربما يكفي التذكير بعجز الدولة عن ضبط توزيع الطابع المالي وتوفيره في السوق، واستعادة المشهد المتكوّن من تداعيات الفوضى المترتبة عن فقدانه إلّا في السوق السوداء، حيث يباع بأضعاف سعره، وكذلك تجاوز كلفة «الوسم» البديل المتاح عبر شركات تحصيل الأموال أضعاف قيمة هذا الرسم في بعض الحالات، يضاف إليها الخوة التي يمكن أن يفرضها موظفون في بعض الإدارات لقبول هذا الوسم، بحيث بات هذا التعسّف يحاكي الرسوم الثابتة في فواتير الكهرباء المدولرة دون كهرباء، ويحاكي كذلك رسوم البريد التي أضيف إليها «بدل تكاليف معالجة»، وبدل اللاصق ومعالجة اللاصق دون لاصق، التي أضيفت إلى رسوم السير، والغرامات على هذه الرسوم عن فترة كانت فيها الدوائر المختصة مقفلة وأنظمة تحصيل الرسوم والضرائب معطّلة، ولم يكن بإمكان المواطن، خلالها، تسديد المتوجب عليه منها، واللائحة تطول.