بعد أن تتكشف الحرب، يتضح أيضًا حجم الدمار ومدى المليارات التي يحتاجها البلد لإعادة الإعمار. من بيروت، يتساءل اللبنانيون حاليًا عن إعادة الإعمار ومتى وكيف سيتم ذلك. يمكن تقسيم الإجابة إلى شقين أساسيين: الشق الأول يتعلق بقدرة الدولة اللبنانية على القيام بمهمة إعادة الإعمار، وتحديدًا إعادة إعمار الخسائر المباشرة التي لحقت بالبلاد، خاصة البنى التحتية، والتي تقدر بحوالي 900 مليون إلى مليار دولار. أما الخسائر التي لحقت بالمساكن الخاصة فتقدر في أفضل الحالات بين 7.5 و8 مليارات دولار. هناك أيضًا خسائر تتعلق برفع الأنقاض من الشوارع والمناطق والطرقات ومعالجتها، بالإضافة إلى الخسائر المباشرة التي لحقت بالأراضي الزراعية والبيئة بشكل عام.
من الواضح أن الدولة اللبنانية غير قادرة على القيام بهذه المهمة لسببين أساسيين: الأول هو أن الدولة اللبنانية لا تملك في حسابها سوى حوالي 6 مليارات دولار، منها 500 مليون دولار فقط بالدولار الأمريكي، بينما البقية بالليرة اللبنانية. ومع العلم أن ضخ الليرات في السوق سيؤدي إلى طلب كبير على الدولار، ما يهدد بتوازن سعر الصرف الذي حاول لبنان الحفاظ عليه بشق الأنفس، فإن إمكانيات الدولة في إعادة الإعمار شبه معدومة.
أما بالنسبة للمساعدات الدولية، فقد رصد مؤتمر باريس الأخير للبنان مليار دولار فقط، منها 800 مليون دولار مخصصة لمساعدة النازحين، وكانت في الغالب عبارة عن مساعدات عينية وليست نقدية، وبالتالي لا تصلح هذه المساعدات لإعادة الإعمار.
وفيما يتعلق بالمنح، من المستبعد اليوم أن تحصل الدولة اللبنانية على هذه الكمية الكبيرة من الأموال من الدول الصديقة أو الشقيقة، كما أن الاقتراض من الأسواق الدولية ليس خيارًا متاحًا بسبب تخلف لبنان عن سداد ديونه منذ عام 2020 وتصنيفه الائتماني المتدني. أمام هذه التحديات، تبدو الآفاق قاتمة بالنسبة لإعادة الإعمار.
خلال وقف إطلاق النار في لبنان، لم يبادر أحد من المسؤولين الحكوميين أو حتى حزب الله إلى الإعلان بشكل صريح عن خطة لإعادة الإعمار. بقيت التصريحات في إطار الشكليات والتنظير دون خطوات فعلية. الأهم في هذه القضية هو مصادر التمويل، إذ بدأت بوادر القلق تظهر في الداخل اللبناني من إمكانية هدر الأموال التي قد يتم جمعها، نظرًا لتاريخ الفساد المرتبط بالجهات التي كانت تدير هذه الأموال سابقًا.
في عام 2006، بعد انتهاء الحرب، شهدنا مبادرات من الدول العربية لتمويل إعادة الإعمار. على سبيل المثال، تكفلت قطر بإعادة إعمار 170 قرية جنوبية وأعادت بناء 170 ألف وحدة سكنية بشكل كامل أو جزئي. وكذلك، ساهمت المملكة العربية السعودية والإمارات في دعم جهود إعادة الإعمار. كان لافتًا آنذاك ضخ هذه الدول أموالًا في مصرف لبنان المركزي للمساهمة في الحفاظ على استقرار سعر الصرف. أما اليوم، فنحن نفتقد هذه المبادرات، كما نفتقد ودائع مماثلة في مصرف لبنان للمحافظة على ثبات سعر الصرف واستقرار الليرة.
الحديث عن تمويل مباشر لإعادة الإعمار يكاد يكون غير موجود، ومن المتوقع أن إعادة الإعمار لن تبدأ قبل مرور ستين يومًا من التأكد من التزام الطرفين بالهدنة وتحولها إلى هدنة دائمة.
في بيروت، وتحديدًا في ضاحية بيروت الجنوبية التي تعرضت لدمار كبير وتتطلب تكلفة مرتفعة لإعادة إعمارها بسبب كثافتها السكانية العالية ووجود أبنية كبيرة، تبدو الحاجة ملحة لتوفر الأموال والمعرفة بكيفية إدارتها وتوزيعها. ولكن التجربة السابقة عقب انفجار مرفأ بيروت عام 2020 تشير إلى أن الجهات التي تلقت المساعدات حينها ليست الخيار الأمثل، حيث لم يحصل لبنان على أي أموال مباشرة لإعادة الإعمار، بل جاءت الأموال من منظمات المجتمع المدني ومنظمات الأمم المتحدة.