الحرب تكبّد لبنان 8.5 مليار دولار.. التداعيات وفرص التعويض

الحرب

أدت الحرب المستمرة بين حزب الله وإسرائيل إلى تفاقم الأزمات في لبنان، إذ زادت الضغوط على الاقتصاد المتدهور منذ سنوات، مما أثر سلبا على مختلف القطاعات الحيوية، وأدى إلى تعميق المعاناة الاجتماعية.

وخلال كلمته في القمة العربية الإسلامية، صرّح رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، بأن خسائر لبنان جراء هذه الحرب تُقدر بنحو 8.5 مليار دولار، استنادا إلى تقديرات البنك الدولي. وأوضح أن قطاع الإسكان تكبد خسائر فادحة، مع تدمير حوالي 100 ألف مسكن بشكل كامل أو جزئي، بتكلفة تصل إلى 3.4 مليار دولار.

وأشار ميقاتي إلى أن القطاعات الحيوية الأخرى، مثل التربية والصحة والزراعة والبيئة، لم تكن بمنأى عن الأضرار، حيث بلغت خسائرها نحو 5.1 مليار دولار، ما يعرض هذه القطاعات إلى خطر التراجع الكبير في قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين ويزيد من الأعباء على الدولة التي تعاني من محدودية مواردها وضيق خياراتها المالية.

حتى الآن، بلغت خسائر لبنان من الحرب الجارية هذا الرقم المرشح للارتفاع مع كل يوم يستمر فيه الصراع، ما يثير التساؤل حول كيفية تمكّن لبنان من تعويض هذه الخسائر، وما هو تأثيرها على اللبنانيين الذي أنهكتهم الأزمات المتتالية؟

خسائر مضاعفة

يرى الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين أن الحديث عن الخسائر والأضرار المباشرة وغير المباشرة للحرب ما زال مبكراً، “لاسيما أنها مستمرة وقد تطول”، ويشير إلى أن “عمليات المسح الميداني للأضرار لم تُجرَ بشكل كاف، مما يجعل الأرقام المتداولة تقديرية وغير نهائية، وتعتمد على ما يتم تداوله في وسائل الإعلام حول الدمار والأضرار”.

ويوضح شمس الدين في حديث لموقع “الحرة” أن قيمة الأضرار والخسائر المباشرة وغير المباشرة وصلت إلى “نحو عشرة مليارات دولار، مقارنة بـ5.3 مليار دولار خلال حرب يوليو 2006، أي ضعف القيمة تقريبا”.

ووفقا لشمس الدين، فإن الخسائر توزعت على مرحلتين: الأولى من 8 أكتوبر 2023 إلى 16 سبتمبر 2024 (حيث كانت المعارك محدودة بين حزب الله وإسرائيل في جنوب لبنان)، ووصلت الخسائر فيها “إلى نحو 3 مليارات دولار”.

“أما المرحلة الثانية فتبدأ من 17 سبتمبر 2024 (تاريخ تفجير البايجر) حتى 21 أكتوبر 2024، “ووصلت فيها الأضرار إلى حوالي 7 مليارات دولار”.

وبلغت خسائر البنى التحتية في حرب 2006 بحسب الباحث في الدولية للمعلومات “900 مليون دولار، وهي أعلى مقارنة بالحرب الحالية التي تقدر فيها الخسائر بنحو 570 مليون دولار”، وفيما يتعلق بالأضرار التي لحقت بالمساكن “بلغت في حرب يوليو 2.2 مليار دولار، مقابل 4.260 مليار دولار في الحرب الحالية”.

وفيما يخص خسائر المؤسسات التجارية والصناعية، يقول شمس الدين إنها “وصلت إلى 470 مليون دولار، وهو رقم مماثل لما كان عليه في الحرب الماضية”، كما يلفت إلى أن خسائر القطاعين الزراعي والبيئي “تضاعفت من 450 مليون دولار في 2006 إلى 900 مليون دولار حاليا”، مضيفا أن الخسائر غير المباشرة الناتجة عن تراجع الاقتصاد “وصلت إلى 3.380 مليار دولار مقارنة بـ1.2 مليار دولار في 2006”.

عجز من دون دعم؟

يواجه لبنان تحديات جسيمة في تأمين التمويل اللازم لتعويض الخسائر الناتجة عن الحرب الحالية، والتي يقدرها الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة بأكثر من عشرة مليارات دولار، مؤكدا أن لبنان “غير قادر على التعويض عن هذه الخسائر بمفرده”، واصفا الوضع بـ”المستحيل”، كما يشير إلى أن “احتياطات مصرف لبنان، والتي تشمل أموال المودعين والحكومة، لا تكفي لسد هذه الفجوة المالية الكبيرة”.

كذلك يرى الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا أن لبنان “لا يستطيع تحمل هذه الأعباء وحده، خاصة مع تعاظم الأضرار المباشرة التي طالت المنازل والمؤسسات والبنية التحتية، بالإضافة إلى الخسائر غير المباشرة الناتجة عن تدهور النشاط الاقتصادي”.

ويوضح أبو شقرا أن “حجم الأضرار الاقتصادية في لبنان، التي كانت تقدر بـ 8.5 مليار دولار أثناء انعقاد القمة العربية، ارتفعت بوتيرة سريعة نتيجة التصاعد المستمر للعمليات العسكرية في مناطق مختلفة”، مشيرا إلى أن الخسائر أصبحت تتزايد بشكل يومي، مما يزيد من التحديات المالية والاقتصادية أمام لبنان.

ويشرح أبو شقرا أن الدولة اللبنانية تفتقر للموارد المالية اللازمة للتعويض عن الخسائر، “حيث تبلغ احتياطاتها في مصرف لبنان نحو 5.8 مليار دولار، إلا أن المتاح منها بالعملة الصعبة لا يتجاوز 600 مليون دولار، بينما الباقي مقيد بالليرة اللبنانية، وأي توسع في الإنفاق بالليرة سيؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار، ما يفاقم من عمليات المضاربة ويؤدي إلى تدهور سعر الصرف، وهو ما يهدد الإنجازات الاقتصادية البسيطة التي تحققت مؤخرا”.

كما أن “السلطة عاجزة في ظل الظروف الحالية عن رفع الإيرادات عبر الضرائب والرسوم لتعويض خسائرها من الحرب، بالتالي هي تواجه معضلة في تحقيق تقديراتها في موازنة 2025″، كما يقول أبو شقرا “والتي قدرت الإيرادات بـ 4.7 مليار دولار، فمع التدهور الاقتصادي وتزايد معدلات البطالة، قد لا تتمكن الحكومة من جمع نصف الإيرادات المستهدفة، عدا عن زيادة النفقات العامة، حيث بدأت السلطة باستنزاف بعض الإيرادات التي ادخرتها بين عامي 2023 و2024”.

ومع تعثرها في سداد ديونها، لم يعد بمقدور السلطة اللبنانية وفق ما يقوله الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق “الاقتراض من الأسواق الدولية، مما يجعل مصرف لبنان خيارها الوحيد لتعويض خسائرها.

“ووفقا للمادة 93 من قانون النقد والتسليف، يحق لمصرف لبنان تقديم قروض للدولة في حال عجزها عن تأمين الإيرادات من مصادر أخرى، وهو الأمر الذي اعتمدته الحكومة في الفترات السابقة للاقتراض من المصرف المركزي”.

لكن احتياطي مصرف لبنان البالغ نحو 10.3 مليار دولار، هو بحسب أبو شقرا “ملكا للمودعين الذين حجزت أموالهم وتبخر القسم الأكبر منها، في هذا السياق أثيرت دعوات لاستثمار احتياطي الذهب لدى المصرف، الذي ارتفعت قيمته منذ عام 2019 إلى 13 مليار دولار. ورغم الاقتراحات بتأجير أو رهن احتياطي الذهب للحصول على قروض، إلا أن ذلك يعتبر مجازفة كبيرة لأن قانون النقد والتسليف يشدد على أهمية الذهب في دعم سعر صرف العملة الوطنية، ويشترط الاحتفاظ بنسبة لا تقل عن 30% من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من الذهب، بالإضافة إلى ذلك، يتطلب اتخاذ مثل هذا القرار موافقة رئيس جمهورية وحكومة أصيلة، إلى جانب مجلس النواب”.

يبقى أمام لبنان الخيار الوحيد للمساعدة في تعويض خسائره وهو “المساعدات الخارجية، إلا أن المجتمع الدولي، فقد الثقة في النظام السياسي اللبناني، لذلك لن يعاود منح السلطة الحالية قروضا أو هبات”، ويشير أبو شقرا إلى أن “أول 108 مليون دولار تم تخصيصها مؤخرا من مؤتمر باريس للبنان، تسلمتها منظمات الأمم المتحدة، وليس الحكومة اللبنانية”.

سيناريوهان لتداعيات الأزمة

هناك سيناريوهان محتملان لتأثير الخسائر الضخمة على اللبنانيين. السيناريو الأول، كما يوضح أبو شقرا، يتمثل في “تدفق مساعدات دولية إلى لبنان مخصصة لإعادة إعمار ما تهدم وتعويض المتضررين، مما سينعكس إيجابا على الاقتصاد اللبناني. إذ إن وصول المساعدات بالدولار سيسهم في خلق فرص عمل جديدة، ويعزز الحركة الاقتصادية، ما يخفف من وطأة الأزمة على المواطنين ويعيد بعض الاستقرار إلى السوق المحلي”.

أما السيناريو الثاني، الذي يعد أكثر خطورة، فيحدث في حال “عدم تدفق المساعدات أو تخصيص مساعدات أقل من الحاجة، مما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية. في هذا السياق، قد نشهد تدهورا جديدا في سعر الصرف، وارتفاعا في معدلات التضخم، وفقدانا للقوة الشرائية، إلى جانب تراجع الأجور وتدهور الخدمات في القطاع العام”.

ويشدد الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، أن “غياب الدعم الكافي قد يعيق أي محاولة لتنفيذ خطط اقتصادية لإعادة توزيع الخسائر بعد الحرب، مما يؤدي إلى تعمق الفقر وارتفاع الأسعار وزيادة معدلات البطالة، وهو ما سيؤثر سلبا على جميع المستويات ويضع اللبنانيين أمام تحديات معيشية أشد قسوة”.

يذكر أن معدل الفقر في لبنان ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي (بين عامي 2012 و2022)، إلى 44% من مجموع السكان، وفقا لتقرير للبنك الدولي حمل عنوان “تقييم وضع الفقر والإنصاف في لبنان 2024: التغلب على أزمة طال أمدها”، غير أن المعهد اللبناني لدراسات السوق يقدّر أن نسبة الفقر الفعلية تجاوزت 80%.

وفي السياق ذاته، أشار بيان صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الشهر الماضي إلى أن ارتفاع معدلات البطالة قد يؤثر في حوالي 1.2 مليون عامل في لبنان، حيث توقع أن يسجل معدل البطالة رقما قياسيا عند 32.6% بحلول نهاية العام.

شروط الخروج من المأزق

يحتاج لبنان لتعويض خسائر الحرب كما يقول عجاقة إلى مساعدات خارجية واسعة، لكن الحصول على هذا الدعم “يتطلب من لبنان تنفيذ إصلاحات جوهرية تنقسم إلى شقين: سياسي واقتصادي.

“فعلى الصعيد السياسي، يتطلب الأمر حياد لبنان عن الصراعات الإقليمية، بينما تشمل الإصلاحات الاقتصادية الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي بشكل عام، ومنها تحقيق الشفافية في إدارة الأموال العامة، وتقليص الإنفاق غير الضروري، وتوجيه الموارد لتحسين الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطنون”.

ويضيف عجاقة أن “تطبيق الإصلاحات الاقتصادية وحده قد يكون ممكنا، ولكن الإصلاحات السياسية تواجه صعوبة بالغة في ظل الانقسام الداخلي”.

ويشير إلى أنه في حال تحققت الإصلاحات في الجانبين، فإن ذلك “سيعود بفائدة كبيرة على الاقتصاد اللبناني، مع توقع ضخ الأموال تدريجيا بمعدل يتراوح بين مليار إلى مليار ونصف دولار سنويا، وهو معدل يمكن للاقتصاد اللبناني تحمله، ويساعد على تجنب التضخم”.

وفيما يتعلق بإمكانية تقديم إيران دعما ماليا للبنان، بوصفها الداعم الرئيسي لحزب الله، يستبعد عجاقة هذا السيناريو، مشيرا إلى أن “طهران تعاني من أزمات اقتصادية خانقة نتيجة العقوبات الأميركية، ما يحدّ من قدرتها على تقديم دعم مالي للبنان. وحتى في حال توفرت الرغبة، فإن العقوبات تجعل ذلك أمرا بالغ الصعوبة”.

كذلك يرى أبو شقرا أن الحل لإعادة الإعمار يبدأ “بإصلاح سياسي شامل يعيد الثقة بالبلاد، من خلال إنهاء الصراع الداخلي، وإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية ومكافحة الفساد، وفي حال تمكنت الحكومة اللبنانية من تنفيذ هذه الإصلاحات بنجاح، فإن ذلك قد يشجع الجهات الدولية المانحة على تقديم الدعم المالي، ما قد يخفف من وطأة الأزمة ويعيد بعض الاستقرار إلى الاقتصاد. لكن من دون إصلاحات جدية، يبقى مستقبل الدعم الخارجي غامضا، ما سيضع لبنان أمام تحديات اقتصادية أشد قسوة”.