نازحو الجنوب مخنوقون اقتصادياً: “..ونحن نريد العودة يا سيّد”

الجنوب

لم تكتفِ الأزمة الاقتصادية في طحن مستقبل الشريحة الأغلب من المواطنين قبل 5 سنوات، حتى أفرزت الحرب التي تتحضَّر لإنهاء عامها الأوّل، شعبة جديدة من تشعّبات الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، يدفع نازحو الجنوب ثمنها. والأخطر، أن تداعيات الشكل الجديد للأزمة والمرتبط بالنزوح، تختمر وتنضغط كلّما طال أمد الحرب، لتنفجر لاحقاً فتصيب النازحين والمجتمعات المضيفة. علماً أن مؤشّرات الضغط واضحة، ومنها الإشكالات التي تحصل في القرى بين النازحين ومضيفيهم، فضلاً عن قضية انفلات أسعار الإيجارات.. وغيرها الكثير. فإلى أين يتّجه هذا الملف وكيف سينتهي؟

زيادة العبء الاقتصادي والاجتماعي
حَمَلَ النازحون بعض الأمتعة وتركوا أعمالهم وأقفلوا مؤسساتهم وخرجوا من منازلهم في القرى الحدودية. طالَ زمن الحرب فباتوا أمام خيار ضرورة العمل بأي مجال متاح في القرى المضيفة. أتت النتائج غير مرضية. إذ لا يكفي المردود المالي لمواجهة المتطلّبات اليومية، الأمر الذي “زاد العبء الاقتصادي والاجتماعي، والمرجّح للازدياد كلّما طالت فترة الحرب”، على حدّ تعبير علي، النازح من مدينة بنت جبيل، والذي يشير في حديث لـ”المدن” إلى أن “النقاش حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي للنازحين بات في مستويات مقلقة”. والقلق الذي يستشعره علي ينطلق من أن “الذين وجدوا عملاً، لا يكفيهم المردود، في حين أن الأغلبية لا تزال بلا عمل، وأنا واحد منهم لم أستطع إيجاد عمل بعد نحو 8 أشهر من النزوح، تنقّلت خلالها بين قريتين”. والمدى المفتوح للحرب “يعني أن مجهولاً ينتظرنا”. والمجهول لا يتعلّق فقط بإيجاد عمل أو لا “بل أيضاً بالنظرة إلى وجودنا كنازحين في القرى المضيفة، فنحن لسنا فيها للأسبوع أو شهر كما حصل في حرب تموز 2006، بل في إقامة مفتوحة، وهذا الأمر يضعنا أمام عبء اجتماعي ونفسي أيضاً. فنسأل أنفسنا عن هويّتنا الفعلية في المجتمع المضيف، فهل نحن نازحون نشبه النازحين السوريين آتين من بلد آخر، أم نحن “من أهل البيت” استناداً إلى كوننا جنوبيين؟ وطبيعة الجواب تنسحب على فرص العمل التي لا بدّ لنا من إيجادها. فإن كنا لسنا غرباء، فلماذا لا نجد عملاً لائقاً وبأجر مناسب؟ وإن كنا كذلك، فلماذا لا يزال هناك حاجز معنوي بيننا وبين أبناء القرى، على مستوى الاندماج الاجتماعي، وهل علينا أن نندمج أم لا بانتظار العودة إلى قرانا سريعاً؟ فالاندماج ليس سهلاً لأنه قرار ملازمة للبقاء، فلا أحد يقرّر الاندماج إلاّ بهدف الاستيطان وبناء حياة جديدة”.

التساؤلات التي يطرحها علي والمعبّرة عن صورة عامة تواجه النازحين الجنوبيين، يحقِّقها على أرض الواقع ما يعيشه يوسف، أحد النازحين من عيترون إلى إحدى القرى المحاذية لمدينة صور. فيوسف اضطر للعمل بالزراعة “بأجر يومي لا يزيد عن 500 ألف ليرة، أي نحو 5 دولارات. علماً أن هذا العمل ليس عملاً متواصلاً طيلة أيام الشهر”. ومشكلة انخفاض الأجر ليست الأزمة الوحيدة التي يواجهها يوسف، بل أيضاً “الموقع الاجتماعي للنازح بين أهل القرية والقرى المجاورة، أصبح هاجساً يومياً علينا مواجهته لأننا شئنا أم أبينا، دخلاء على مجتمع جديد، وإن كنا لبنانيين وجنوبيين، فالضيف يبقى لأيام وليس لأشهر أو سنوات. وحتى وإن لم ينطق أحدهم بأي تساؤل، نحن نرى التساؤلات نحونا في عيون الجميع. وهذا ضغط لا يُلتمَس مادياً لكن أثره حقيقي ومخيف”.

هاجس البقاء أو الانتقال
ويتابع يوسف خلال حديث لـ”المدن”، أن ما يشعر به النازحون من ضغط اقتصادي واجتماعي مرافِق “لم يكن ليولد لو أننا لسنا في أزمة طويلة. فنحن مضطرون لمنافسة أهل القرية بمجالات عمل بالكاد تكفيهم، ونحن لسنا باعة متجوّلين نعرض بضاعتنا خلال ساعات ونرحل، بل ننظر اليوم لاحتمالات البقاء”. وعلى سيرة البقاء، ينتقد يوسف كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله حين دعا بالأمس الذين تركوا منازلهم خوفاً من ردّ الفعل الإسرائيلي على العملية العسكرية التي قام بها الحزب، إلى العودة، مطمئناً الناس إلى انتهاء العملية وعدم قدرة الإسرائيلي على الردّ الموسَّع، إذ يعتبر يوسف أن “فكرة العودة باتت تنقسم إلى قسمين بحسب هوية الجماعة التي يطالها الخطاب. فالعودة المقصودة في خطاب الأمس تخصّ أهل الضاحية الجنوبية أو قرى الجنوب غير الحدودية، لكن ماذا عن نازحي القرى الحدودية، مَن يطمئنهم ويعيدهم إلى بيوتهم؟ وإن كانت عودتنا لم يحن أوانها، فكيف نتدبّر أمر معيشتنا؟ كيف نحسم قرارنا بالبقاء في هذه القرية أو الانتقال إلى قرية أخرى، وإلى متى سنبقى فيها وهل نرحل إلى قرية ثالثة أم لا، وهل سنجد عملاً في أيّ من القرى أم لا؟”. هي أسئلة لا يجد يوسف وأغلب النازحين إجابات عليها، لكنها حاضرة بشكل دائم في أذهانهم “وتشكّل ضغطاً كبيراً قابلاً للانفجار في أي لحظة. ولا نعلم كيف سيكون شكل الانفجار وتأثيراته”.

لو لم نكن في أزمة عامة، لتراجع هذا الضغط، أو ربما لم يكن لوجد لأن شريحة كبيرة من الموظفين والأساتذة أو العسكريين لم يكونوا بحاجة للعمل في مجالات أخرى، وبالتالي كان السوق قادراً على استيعاب يد عاملة أو مؤسسات جديدة يخلقها النازحون. في حين أن السوق متضخّم في الأصل بيد عاملة ومؤسسات من أهل القرية، ولا يحتمل دخول عناصر جديدة منافِسة “إلاّ إذا قَدَّمَ النازح منتجاً جديداً غير موجود مسبقاً”.

كلفة ليست سهلة
ينظر الخبير الاقتصادي باتريك مارديني بشيء من الإرباك إلى ما تفرزه الحرب ويولِّده النزوح من آثار اقتصادية واجتماعية، فهو موضوع معقّد ومتشعّب. ويعود الإرباك إلى طبيعة ما أفرزته الحرب، سيّما وأن مداها الزمني طويل ويحمل انعكاسات على النازحين، لا تزال تتفاعل ونتائجها لم تستقرّ. ومع ذلك، يمكن وضع معالم معيّنة لتحليل الواقع، وتنطلق من المعطيات الخاصة بكل نازح. فالبعض يملك مهنة معيّنة والبعض الآخر يطرح نفسه كيد عاملة. في المثال الأول يشير مارديني في حديث لـ”المدن” إلى امكانية افتتاح النازح مؤسسة صغيرة في القرية التي نزح إليها “لكنه بالتأكيد سيواجه منافسة من المؤسسات المشابهة الموجودة قبله. وهنا يبرز عنصر المفاضلة، فالزبائن سيتّجهون نحو المؤسسة التي تقدّم نوعية أفضل بسعر أوفر، فإذا كان النازح أكثر مهارة وقادراً على المنافسة، فسينجح عمله، وهذا النجاح قد يجبر ابن القرية على تحسين انتاجه”. ويلفت مارديني النظر إلى أنه “في الغالب، لا يفتتح النازحون محالاً تبيع منتجات أو خدمات موجودة في القرية، بل يتّجهون نحو منتجات غير موجودة، فتختفي المنافسة، بل يترك الواقع الجديد أثراً إيجابياً في السوق المضيف”. أما اليد العاملة، فتواجه عوائق أكبر.

وفي حال عدم النجاح في خلق عمل مختلف، والاضطرار إلى المنافسة سواء باليد العاملة أو بالمنتج والخدمة التي يقدّمها النازحون في مؤسساتهم الجديدة، فسيتحوَّل الأمر إلى “كلفة كبيرة يدفعها النازحون”. وبالتالي “الضغط سيبقى موجوداً”.
لا يستسهل يوسف النظرة الاقتصادية العلمية لافتتاح النازحين مؤسسات في المجتمعات المضيفة. لأن “صحّة نقاش المسألة من ناحية علمية نظرية بحتة، لا تتناسب مع الواقع الذي يقول بأن الكثير من أبناء القرى لا تستسيغ وجود شخص غريب بمفهومهم، قرّر أن يفتح محلاً وينافس أهل البلد. ففي إحدى القرى تم إطلاق النار على محلّ لنازح بعد أقل من شهرين على افتتاحه، وهذا العمل رتّب خسارة مادية هائلة على النازح. فمن يعالج هذه الأمور؟”.
الوضع ذاهب “نحو الانفجار”، على حدّ تعبير يوسف الذي يستدرك ليوضح أن “الحديث عن انفجار اقتصادي واجتماعي لا يتحمّل مسؤوليته أهل القرى المضيفة، فهو نتيجة طبيعية لاحتقان لم يُجَهَّز له أي آلية احتواء”. ويرفض يوسف اعتبار المساعدات الاجتماعية وتحرّك الجمعيات والبلديات لمساعدة النازحين، على أنه آلية صحيحة لمعالجة آثار النزوح بل هو “تحرّك عفوي يدل على طيبة الأهالي، لكنه ليس علاجاً مناسباً لأزمة بحجم حرب طويلة الأمد”.

من غير المعروف كيف سينتهي هذا الملف، نظراً لارتباطه بواقع اقليمي ودولي. لكن ما هو محسوم، أن “النازحين وصلوا إلى مرحلة الاختناق، والكل خائف وإن لم يعبِّر عن ذلك صراحة، أما مكابرة لمواجهة الاحتلال معنوياً، أو خوفاً من عدم الحصول على التعويضات بعد الحرب، أو لأسباب أخرى تختلف من شخص لآخر”.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع المدن