دراسات كثيرة وُضعت منذ اندلاع الأزمة المالية والمصرفية في لبنان تُحمّل الإنفاق العام الذي قامت به الحكومات اللبنانية المتعاقبة في السنوات الماضية، بظل الهريان والفساد المعشعش في القطاع العام غير المنتج والمحسوبيات والزبائنية، مسؤولية أساسية عن الأزمة المالية والمصرفية التي يعاني منها لبنان منذ أواخر العام 2019. خصوصاً وأن الإنفاق العام طوال عقود كان يتم بشكل مفرط من دون تأمين إيرادات ومداخيل إلى الخزينة موازية له، وسط كل هذا الأداء الفضائحي للممسكين بالقرار في غالبية الحكومات المتعاقبة وهذا التسيّب والتهرّب الضريبي والتهريب والحدود السائبة والصفقات وغياب المحاسبة.
رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني، يوضح في حديث إلى موقع القوات اللبنانية الإلكتروني، أن “لبنان يعاني من أزمات متزامنة عدة، إحداها أزمة الإنفاق العام التي تعتبر أساسية لأن الحكومات اللبنانية تُنفق أكثر بكثير من مداخيلها”، مشيراً إلى أنه “في العقود الماضية كانت الحكومات تُنفق من أموال لا تقوم بجبايتها، أي لم يكن لديها مداخيل كافية لتمويل هذا الإنفاق، بالتالي كانت تلجأ إلى الاستدانة ما تسبّب بأزمة دين عام أدّت إلى تخلُّف الحكومة اللبنانية عن تسديد ديونها المتراكمة، إذ تشكّل هذه الديون مع الفوائد المتراكمة عليها مبلغاً كبيراً لم تعد الحكومة قادرة على تسديده”.
مارديني يلفت، إلى أن “هذه الأزمة الأساسية أدّت إلى أزمة مصرفية لأن الحكومة اللبنانية كانت تتموَّل بشكل أساسي من المصارف اللبنانية. إما مباشرة كانت المصارف تكتتب بسندات الخزينة، أو بشكل غير مباشر كانت المصارف تضع أموالها في مصرف لبنان الذي يقوم بدوره بتمويل ما تطلب الحكومة استدانته منه من هذه الأموال”.
يضيف: “في الحالتين، تسبّب ذلك بأزمة لدى المصارف. لأنه عند تخلُّف الحكومة عن تسديد ديونها وتخلُّف المصرف المركزي عن تسديد التزاماته تجاه المصارف، بات لدى المصارف أزمة مصرفية ولم يعد باستطاعتها تسديد أموال المودعين التي أعطتها للقطاع العام بشقيه، مصرف لبنان والحكومة. بالتالي عدم قدرة القطاع العام على تسديد ديونه جعلت المصارف متخلفة عن الدفع وتسديد ودائعها، ما أدى إلى أزمة مصرفية ومشكلة كبيرة جداً يمرّ لبنان بها حالياً”.
يتابع مارديني: “حين لم تعد المصارف قادرة على تمويل الحكومة جرّاء عدم توفر الأموال لأنها فقدت أساساً ثقة مودعيها بسبب عدم إعادتها أموالهم إليهم، لجأت الحكومة اللبنانية في الفترات السابقة إلى تمويل الإنفاق العام عن طريق المصرف المركزي، وتحديداً عن طريق طباعة الليرة. بالتالي حصلت زيادة في حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية ما تسبّب بتضخم مفرط أدى إلى انهيار كبير لسعر صرف الليرة وارتفاع الدولار مقابل الليرة وغلاء فاحش في الأسعار”.
عن الحلول الممكنة للخروج من هذه الأزمة، يرى مارديني أنها “تبدأ من الإنفاق العام، فعلى الحكومة ترشيد الإنفاق العام بشكل يتناسب مع مداخيلها”، لافتاً إلى أنه “في الموازنة العامة الأخيرة للعام 2024 تقدّمت الحكومة بموازنة عامة تدّعي بأنها متوازنة، أي أن الإنفاق يوازي الإيرادات. لكن في الحقيقة كان هناك تضخيم للإيرادات من أجل تبرير الإنفاق المرتفع. بالتالي على الحكومة اللبنانية تخفيض نفقاتها عن طريق هيكلة القطاع العام وجعله منتجاً وفعّالاً”.
برأي مارديني، أن “حلّ هذه المشكلة يحلّ مشاكل كثيرة في المستقبل. فأولاً، هذه ستكون بمثابة الخطوة الأولى لمعالجة مشكلة الدين العام وتخلُّف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها. ثانياً في موضوع التضخم، يجب فصل السياسة النقدية أي المصرف المركزي عن السياسة المالية أي مالية الدولة”، معتبراً أنه “يجب إقرار 3 إصلاحات في لبنان تقيم هذا الفصل بشكل مستدام:
أولاً، منع الحكومة من الاستدانة من المصرف المركزي أو منع المركزي من تسليفها، لأن هذا ما أهدر أموال المودعين وأدى إلى تضخم مفرط وانهيار سعر الصرف. ثانياً، منع المصارف اللبنانية من توظيف أموالها في المصرف المركزي، لأن هذا الأمر أدى إلى خسارتها أموال المودعين ويجب أن نتعلم من دروس الماضي. ثالثاً، يجب منع المصرف المركزي من طباعة ليرة غير مغظاة بعملات أجنبية وتحديداً باحتياطي من الدولار لتفادي التضخم المفرط الذي عشناه. هذه إصلاحات أساسية يجب أن تحصل لمنع تكرار الأزمة المصرفية وانهيار سعر صرف الليرة في المستقبل”.