موازنة “رضى” صندوق النقد: أي مصير للقطاع العام وسعر الدولار؟

صندوق النقد
تنتظم عملية إقرار الموازنات العامة رغم الأزمة المستمرة. وعلى عِلّاتها، تحاول السلطة السياسية تحسين أدائها في تشكيل الموازنات لتخرج بالصورة التي تريدها. وما تريده، هو وثيقة تثبت بأرقامها السير نحو الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي، وهذا ما وصلت إليه موازنة العام 2024. إلاّ أن الثغرات التي حملتها هذه الموازنة، جعلت منها ورقة نعوة اقتصادية، تحديداً في ما يتعلَّق بالقطاع العام. ولأنّها ليست موازنة حلول، يصبح التساؤل مشروعاً حول احتمالات تردّي الأوضاع الاقتصادية أكثر ممّا هي عليه اليوم. وربطاً بذلك، تحوم علامات الاستفهام حول إمكانية عودة سعر صرف الدولار إلى التحرّك.

هدوء في القعر
تصف القوى السياسية موازنة العام 2024 بأنها أفضل الممكن، شأنها شأن باقي الموازنات المقرَّة خلال الأزمة وسط غياب الإصلاحات الفعلية. هي أفضل الممكن مقارنة بما سبق، وهو الوصف الذي يوافق عليه الخبير الاقتصادي باتريك مارديني الذي يرى بأن “الطبقة السياسية بدأت بالاقتناع أن زيادة الضرائب أمر سلبي. وجاءت موازنة العام الحالي بضوابط على الاقتراض مقارنة بموازنة العام 2023، وهذا أمر جيّد”. وبعض الإيجابيات التي صبغت موازنة العام الجاري، لا تعني بأنها موازنة إنقاذ، فرغم إيجابياتها مقارنة بالموازنات السابقة، حملت موازنة الـ2024 “زيادة في النفقات بمعدّل 50 بالمئة، وهو ما ضرب كل إيجابياتها عرض الحائط، لأنه لا يمكن زيادة النفقات بأكثر من حجم النمو الاقتصادي الذي لا يتجاوز 1.7 بالمئة”، وفق ما يقوله مارديني لـ”المدن”.
ما أقرّه مجلس النواب أخيراً، هو ترجمة لـ”سياسة البقاء في القعر بلا إصلاحات لفترة طويلة”. فترة سيتواصل فيها الاستقرار النسبي الذي بدأنا بالتماسه مع ثبات سعر صرف الدولار عند معدّل 89000 ليرة، بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة واستلام نائبه الأول وسيم منصوري مهام الحاكمية بالإنابة. فمنصوري ارتأى وقف إقراض الحكومة بالليرة وبالدولار، وذلك خفَّض حجم الكتلة النقدية بالليرة الموجودة في السوق، وقلَّصَ الحاجة لطباعة المزيد منها لشراء الدولار. وبحسب مارديني “يبلغ حجم الكتلة النقدية بالليرة حالياً 58 تريليون ليرة، في حين وصلت خلال عهد سلامة إلى نحو 80 تريليون. وعدم زيادة الكتلة النقدية في السوق يساعد في تأمين الاستقرار لسعر صرف الدولار، إلى جانب حجم الدولارات التي دخلت إلى السوق خلال فترة فصل الصيف عن طريق المغتربين والسيّاح”.

تجاوباً مع صندوق النقد
جرى تصفير العجز في الموازنة الأخيرة، فابتعدت عن محاكاة حقيقة ما تعيشه البلاد، بل رسمت واقعاً مختلفاً لا حاجة فيه إلى أن تواجه الموازنة العامة أي تحدّيات اقتصادية واجتماعية ونقدية، ولا أزمة قطاع عام أو خدمات عامة، على رأسها خدمات الكهرباء والاستشفاء. لتنزع بذلك الموازنة عن نفسها صورة الموازنة الاقتصادية وتتمسّك بواقع كونها “موازنة محاسبية فقط”، وفق ما يعتبره الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة، الذي يسجِّل لمجلس النواب خطوة إقرار الموازنة، لأنه “لا يمكن لبلد أن يسير بلا موازنة، حتى وإن كانت بمواصفات أسوأ من التي أقرَّت. فالموازنة تبقى مرجعاً مكتوباً لإجراء أي حسابات”.
يستبعد عجاقة في حديث لـ”المدن” أن تلعب هذه الموازنة دورها في ضبط الوضع والخروج من الأزمة. فهي على سبيل المثال “لم تذكر الدين العام الذي يبلغ الدين الداخلي منه نسبة 85 بالمئة. ولم تتضمّن أكلاف الكهرباء التي أصبحت توضع خارج الموازنة كعُرف. وكذلك لم تأتِ الموازنة على ذكر ما يمكن فعله تجاه موظّفي القطاع العام”. ولا يستبعد عجاقة أن تنعكس معاناة موظفي الدولة على أدائهم داخل الإدارات العامة، ما يزيد الفساد والرشوة.
وما فعلته موازنة 2024 هو تحقيق ما طلبه صندوق النقد الدولي، أي “رفع الإيرادات وخفض النفقات وتأمين استدامتهما، وهي إصلاحات شكلية، إذ أنجزت الحكومة بالنسبة لصندوق النقد، موازنة بصفر عجز، وإن على الورق”. لكن الإلتفاف على الإجراءات الحقيقية المطلوبة يساعد على “استمرار التآكل على المستويات الاقتصادية والنقدية والمالية. فالخسائر يزداد حجمها يوماً بعد يوم”. وعليه، كان الأفضل الشروع في تطبيق إجراءات إصلاحية تُفعِّل الاقتصاد وتبعده عن الاقتصاد الكاش المدولَر. ولو أن النمو الذي يشهده هذا الاقتصاد “جرى توظيفه في الاقتصاد الشرعي، لحسَّنَت الدولة إيراداتها وأصبحت قادرة على تأمين متطلبات إنفاقها”.
وما يُطرَح في الاقتصاد الكاش يتضمَّن مخاطر لا تتوقّف عند عدم استفادة الاقتصاد الشرعي والدولة بشكل كافٍ ممّا يُطرَح، بل يتعدّى ذلك إلى مخاطر تصنيف لبنان على اللائحة السوداء فيما لو اعتُبِرَ هذا الاقتصاد طريقاً لتبييض الأموال والتهرّب الضريبي أو ربما تمويل الإرهاب، وهي شُبهات تُستَعمَل في الكثير من الأحيان للضغط السياسي على الدول المتعثِّرة والمأزومة اقتصادياً.
وسط ما تحمله الموازنة من إيجابيات وسلبيات، إلا أنها لن تؤثِّر بشكل مباشر على سعر صرف الليرة في الوقت الراهن “فالليرة باتت خارج الاقتصاد ولا تأثير لها، وبالتالي خسرت هدفها في خدمة الاقتصاد في ظل الدولرة التي شملت كل الاقتصاد باستثناء القطاع العام. وهناك احتمال لتراجع سعر صرف الليرة وصعود سعر الدولار في حال وضعت الليرة على منصة بلومبيرغ ودفعت الدولة لموظّفيها بالليرة وفق سعر المنصة، فعندها قد يرتفع الطلب على شراء الدولار بتلك الليرات، فيتحرّك سعره”. ورغم ذلك، ليس من المنتظر أن تتغيَّر أسعار الدولار كثيراً بسبب دولرة الاقتصاد.
محاولة كسب رضى صندوق النقد بعد 4 سنوات من الأزمة ورفض الإصلاح الفعلي، يعني أن الدولة ما زالت تلعب بـ”كرة النار”. وما يحصل من إقرار لموازنات بهذا الشكل، هو “تحويل للأنظار عن ضرورة إجراء حوكَمة سياسية جديدة والإتيان بطقم سياسي مختلف عمّا هو موجود اليوم. فضلاً عن الإتيان بممثّلين مختلفين عن العمّال وأصحاب العمل”، وفق ما يقوله الخبير الاقتصادي روي بدارو لـ”المدن”. وبنظره، هناك “موازين قوى سياسية ومالية في البلد، تتحكّم بمصيره، ولا تستطيع إيجاد أي حلّ”.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع  المدن