كان قانون الشراء العام مولوداً لا بدّ منه في أسرة التشريعات اللبنانية الكبيرة. فهو وُلد نتيجة ضغط المجتمع الدولي والمحلي من أجل إقرار قوانين تعزز الشفافية والمنافسة وتخفض منسوب الفساد المستشري في الصفقات العمومية، لكنه ولد من رحم الأزمة بتشوهات خلقية. ولعلَّه حمل في جيناته إمكانية مبطّنة للفساد، نقلها إليه بعض آبائه عن قصد أو عن غير قصد. فقد بقيت مفاهيمه عصيّة على الترابط الصحيح، لتناقضات واضحة وفاضحة بين بنوده المترامية في مواده المئة والست عشرة.
ولعل أهم هذه الثغرات عدم وضع معايير واضحة لتحديد عمليات الشراء التي تتصف بالسرية بين العارض والجهة الشارية. ويسمح هذا الغموض لمن ينفق المال العام بتصنيف صفقاته بالسرية، تهرُّبا من المنافسة والعلنية، والتعاقد مع شركة مختارة سلفاً عن طريق المحاباة. كما يندرج من ضمن الثغرات عدم إلزام الجهات الشارية بوضع قيمة تقديرية لمشروع الشراء، ما يفتح المجال أمام قبول عروض بعيدة عن القيمة الحقيقية، بحيث تنفق الحكومة أكثر من اللزوم لدى قيامها بعملية الشراء وتجني مداخيل أقل من المستحقة جراء المزايدات العمومية. كما يتميز القانون بوجود بعض المهل غير المعقولة والسماح للعارض بتعديل عرضه أو سحبه قبل الموعد النهائي لتقديم العروض، ما يسهل التواطؤ بين العارضين. وكذلك يفتقر قانون الشراء العام إلى الدقة في استعمال كلمة “الجهة الشارية”، ما يتفتح المجال أمام تدخل الوزراء في عمل لجان التلزيم ويفقدها الاستقلالية الضرورية لتفادي الفساد والمحاباة.
ولربما كان أجدى بالمشرعين أن يرفقوا القانون بلائحة تفسير للمفردات الواردة مع دلالاتها المقصودة حتى لا يقع من يطبّقه في فخ الخطأ “غير المقصود”. وتتميّز القوانين المتعلّقة بالشراء والتلزيم أو بإدارة الاستثمارات بأنها تجمع بين مزايا القوانين الماليّة والتجارية بكل ما تحمل من ضوابط إداريّة. فهي تحدد القواعد التشاركية بين الشاري والبائع وتحميها. وإلى هنا، يتفق هذا مع فحوى النص العام لقانون الشراء العام في لبنان. ولكن قبل الوصول إلى تحديد القواعد التشاركية، تبرز قواعد الحفاظ على حقوق الجميع بالمنافسة العادلة لتأتي بعدها معايير الشفافية والوضوح المبنيّة على التناسب بين المواد.
ويلاحظ من يراجع قانون الشراء العام بتمعّن وتروٍّ أنه لم يراعِ في مَواطن عديدة من متنه كل ذلك، على الرغم من أن المشرّع اللبناني مشهود له بقدرته التقنيّة والقانونية واللغويّة على مستوى العالم. فلماذا جاء هذا القانون غير متناسق مع القوانين المالية، بشكل جعله مختلفاً عن كل أخوته الذين سبقوه؟
وقد يحتاج ذلك المولود المشوَّه في أعضائه الداخلية إلى عدة عمليات جراحية قبل أن يُكمل حياته بسلام.
قصور وغموض في قانون الشراء العام
مما لا شك فيه أن قانون الشراء العام أخذ بمبادئ المنافسة والعلنية والفرص المتكافئة والمعاملة العادلة والمتساوية وتشجيع التنمية الاقتصادية المحلية والعمالة الوطنية على أساس القيمة الفضلى من إنفاق المال العام دون الإخلال بالفعالية، وهذه المبادئ الواردة في المادة الأولى من هذا القانون معتبرة من الانتظام العام، ما يعني عدم جواز مخالفتها وتفسير أي مادة بما يخالفها . كما ينبغي أن يكون ما جاء في نصوص القانون ومواده الأخرى متناغما ومنسجما مع هذه المبادئ والأهداف، إلا أن واقع نصوص القانون لم يكن كذلك. فقد فشلت مادته الثانية في وضع تعريف واضح ودقيق للجهات الشارية، واعتمدت معايير غير واضحة مثل ملكية الدولة في رأسمال الشركات والبيئة الاحتكارية. وفيما أخضعت هيئة الشراء العام شركة كازينو لبنان مثلاً لقانون الشراء العام، اعتمد ديوان المحاسبة اجتهاداً يقول بعكس ذلك، وهو ما يطرح ضرورة إعادة صياغة هذه المادة بشكل واضح ودقيق وتعداد الشركات التي تثير طبيعتها أو الملكية فيها من قبل الدولة جدلاً وذكرها بالاسم متى اقتضى الأمر وأراد المشرع إخضاعها للقانون.
ولم تؤخَذ بعين الاعتبار لدى صياغة قانون الشراء العام الصلة الوثيقة بين هذا القانون والقوانين المالية الأخرى وضرورة أن تكون النظرة إلى هذه القوانين من منظار شمولي بحيث تتناسق لتحقيق الغاية المرجوة وهي الحفاظ على المال العام.
وعلى الرغم من التعديلات التي أُقرّت عليه بموجب القانون رقم ٣٠٩ تاريخ ١٩/٤/٢٠٢٣، ما زالت بعض الثغرات تعتري قانون الشراء العام وتحول دون تطبيقه بما يحقق الغاية منه. ولعل أهم هذه الثغرات وضع معايير واضحة لتصنيف عمليات الشراء التي تتصف بالسرية وتحديد الجهة المختصة بهذا التوصيف وتحديد معايير خضوع بعض الشركات لأحكام قانون الشراء العام أو ذكرها بالاسم منعاً لأي التباس أو تعارض في الاجتهاد. كما يندرج من ضمن الثغرات إلزام الجهات الشارية بوضع القيمة التقديرية لمشروع الشراء وإيلاء المهمة لهيئة الشراء العام في حال عجز الجهات الشارية عن ذلك حقّاً، إلى جانب إقامة حدود فاصلة بين الإعلان عنها أو ضرورات بقائها سرية، وكذلك وضع مؤشرات علمية لحالات انخفاض الأسعار بشكل غير طبيعي ووضع أحكام تختص بحالات ارتفاع الأسعار بشكل غير طبيعي. ولعلّ من ضمن هذه الثغرات أيضاً تعديل بعض المهل غير المعقولة لتصبح منطقية ويكون بالإمكان إلزام الجهات الشارية التقيّد بها، إضافةً إلى إلغاء النص الذي يسمح للعارض بتعديل عرضه أو سحبه قبل الموعد النهائي لتقديم العروض لما يوفّره هذا النص من تسهيل للتواطؤ بين العارضين.
وكذلك يفتقر قانون الشراء العام إلى الدقة التي تميز لغة الصياغة القانونية، فاستعمل كلمة “الجهة الشارية” تارة بمعنى جهة التعاقد بأكمله وطوراً بمعنى المرجع الصالح للعقد وأطواراً بمعنى لجنة التلزيم أو بمعنى وحدة الشراء، فهو يكرس المبدأ وينقضه في آنٍ معاً. فإذ نصت المادة ١٠٠ من قانون الشراء العام في فقرتها الأولى على أن لجنة التلزيم تتصرف بشكل مستقل عن الجهة الشارية وأن تقييم العروض هو حصرا من مهامها، نرى ان المشرع ضرب هذه الاستقلالية ضربات قاضية في العديد من مواده. فقد أورد عبارة الجهة الشارية دون تحديد المقصود بها: هل هو الجهة الشارية بصفتها وحدة إدارية بكامل كيانها أم المرجع الصالح للعقد لدى الجهة الشارية أم وحدة الشراء لدى الجهة الشارية أم لجنة التلزيم لدى الجهة الشارية؟ وقد دقّقنا في مواد القانون واحدة تلو أخرى في محاولة لفهم المقصود لإيصال التطبيق إلى الأهداف المنصوص عليها في المادة الأولى، فتبين لنا ما يلي:
في المادتين الثانية والثالثة من قانون الشراء العام، يُفهَم أن المشرع يقصد الجهة الشارية باعتبارها وحدة إدارية خاضعة لأحكامه. وفي المادة الرابعة منه، قصد المشرع الجهة الشارية كما لجنة التلزيم عندما أوجب أن تُعتَمد اللغة العربية في مستندات الشراء وفي قرارات الجهة الشارية. ولعل قصد المشترع هذا لم يتغير في المادة السادسة عندما فرض موجب السرية على الجهة الشارية وعلى جميع المعنيين بعملية الشراء. أما في المادة السابعة من قانون الشراء العام، فينبغي أن تُفهَم بالجهة الشارية وحدة الشراء المعنية بتحديد شروط الاشتراك في الصفقات العمومية. وفي المادة الثامنة من قانون الشراء العام، يُفهَم من نص المشرع “تستبعد الجهة الشارية العارض من إجراءات التلزيم” أنّ المقصود هو لجنة التلزيم المستقلة تماما عن الجهة الشارية في حال الشراء التنافسي ووحدة الشراء في حال التعاقد بالتراضي أو الشراء بالفاتورة. وينطبق هذا المفهوم أيضا على حالة الاستبعاد أينما ورد النص على قيام الجهة الشارية بها.
وفي المادة التاسعة من قانون الشراء “يقع على وحدة الشراء العام مسك سجل الشراء العام”، وهي المقصودة بعبارة “تُنشئ الجهة الشارية سجلاً خاصاً تُضمِّنُه كل المعلومات المتعلقة بعملية الشراء”. وفي المواد ١١ و١٢ و١٣، تُقصَد بالجهة الشارية وحدة الشراء لدى الجهة الشارية، وهي المنوط بها تخطيط المشتريات ووضع القيمة التقديرية، على أن قرار تحديد مدة الإعلان أو تخفيضها يصدر عن المرجع الصالح لعقد النفقة.
وفي المادة ١٧، تُقصَد بالجهة الشارية وحدة الشراء باستثناء النص على أنه “لدى تقييم العروض المقدَّمة وتحديد العرض الفائز، تَستخدِم الجهة الشارية المعايير والإجراءات المبيّنة في ملفات التلزيم” حيث إنّ المقصودة هنا هي لجنة التلزيم. إذ يتعلق الأمر بما هو من اختصاص لجنة التلزيم حصراً.
وفي المادة ١٩، تُقصَد بالجهة الشارية وحدة الشراء باستثناء النص “على أن تَدرُس الجهة الشارية ملفات التأهيل لكلّ عارض يقدِّم طلباً للتأهُّل المسبق، وتقرِّر تأهيل العارضين الذين تتوفّر فيهم الشروط المطلوبة، لا تُطبِّق الجهة الشارية، عند اتخاذها قرارها، سوى المعايير والإجراءات المنصوص عليها في الدعوة إلى التأهُّل المسبق وفي وثائق التأهيل”. فالمقصودة هنا هي لجنة التلزيم، والمقصودة بالجهة الشارية في المادة ٥٥ هي لجنة التلزيم لأن الأمر يتعلق بتقييم العروض.
أما فيما يتعلق بالمادة ٥٦ التي تنصّ على أن “تُحظَر المفاوضات بين الجهة الشارية وأيّ من العارضين بشأن العرض الذي قدَّمَه ذلك العارض”، فيفهم منها لجنة التلزيم في مرحلة البت في العروض ووحدة الشراء لدى الجهة الشارية في مرحلة ما بعد إرساء التلزيم مؤقتا وما قبل توقيع العقد. وهنا يُطرَح السؤال عن وجوب تحديد ماهية المفاوضات المرفوضة في هذه المرحلة.
وتُقصَد بالهيئة الشارية الهيئة الشارية باعتبارها وحدة إدارية في المادة ٦٩ (نظام الشراء الإلكتروني)، والمادة ٧٣ التي تنص على أن “تُنشأ في الهيكل التنظيمي للجهة الشارية وحدة للشراء”، والمادة ٧٦ التي تحدد مهمات هيئة الشراء العام. كما ينطبق ذلك على المادة ٧٧ التي تنص على حق رئيس هيئة الشراء العام في أن تنتدب كلما دعت الحاجة ممثّلاً عن الهيئة لحضور جلسات التلزيم التي تجري في الجهة الشارية بصفة مُراقِب ولا يكون له حق التصويت” والمادة ٧٩ (حالات التمنع والتفرغ).
وتُقصَد بالهيئة الشارية الهيئة الشارية باعتبارها وحدة إدارية أو لجنة التلزيم في المادة ٨٩ التي تنص على أن “تُنشأ بموجب هذا القانون هيئة مستقلة تسمى “هيئة الاعتراضات الإدارية” تُعنى ببتّ الاعتراضات المُقدّمة بشأن الإجراءات أو القرارات الصريحة أو الضمنية الصادرة عن الجهة الشارية أو أيّ من الجهات المعنيّة الإدارية بعمليَة الشراء أو المتكوّنة بوجهها، بما في ذلك ملفات التلزيم. وينطبق الأمر نفسه على المواد ١٠٥ (إعادة النظر) و١٠٦ (الشكاوى) و١٠٧(حقوق المشاركين في الاعتراض).
أما في المواد ١٠٠ (لجان التلزيم) و١٠١(لجان الاستلام) و١٠٤و١١١ (التدقيق الداخلي)، تُقصَد الجهة الشارية باعتبارها وحدة إدارية. وفي معظم المواد الأخرى، تُقصَد بالجهة الشارية وحدة الشراء.
وفي المحصّلة، ربما يحتاج تطبيق قانون الشراء العام إلى لائحة مفردات ملحقة تشرح المقصود بالتعابير الواردة فيه.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق