ضاقت مساحة الحوار بين #جمعية المصارف والدولة، وضعفت القدرة على التفاهم في شأن المشكلات والمعوقات القانونية والقضائية المتتالية، فأرخت بظلّ سميك على واقع القطاع المصرفي وعلاقته بالدولة والمودعين. فبعدما تمادى بعض القضاء في الاستنسابية والإستهداف المبرمج سياسيا، على حد تعبير جمعية المصارف، لم تجد المصارف غير العودة الى #الإضراب المفتوح، وإقفال أبوابها مجددا أمام عملائها، ريثما تنجلي الأزمة، ويعي المسؤولون أن الظروف الإستثنائية التي يعيشها لبنان تقتضي من مسؤوليه وقضائه، التحلي والعمل بروح مسؤولية إستثنائية، ريثما تتبدد غيوم الأزمة وتعود الحياة الى الدورة المالية والإقتصادية.
لم تكن كأس الإقفال المُرة، مبتغى المصرفيين، ولا إرباك الخدمات البنكية للناس هدفا ومرتجى. فوفق قول المصارف “لم يعد في اليد حيلة” ولا قدرة على الإستمرار والصمود وتقديم خدماتها للإقتصاد، في حين تحاصرها الإتهامات المسيئة من كل حدب وصوب. أما الأحكام القضائية “الإستنسابية” فتهدد بالإجهاز على بقايا سيولتها، فيما الدولة تقف عاجزة ومربكة، لا هي في واقع القدرة على حماية القطاع من جهة، ولا مسؤولوها في وارد الإقدام على ذلك.
فقدان الثقة والأمان دفع المصارف للعودة الى الإقفال، خصوصا بعدما استشعر أهل القطاع أن سياسة شيطنة المصارف وتحميلها بمفردها مسؤولية الإنهيار النقدي والمالي، لا تزال سارية المفعول. فما فعلته السلطة منذ 17 تشرين الاول 2019 حين اختبأت خلف أسوار القوى الأمنية، تاركة المصارف تتلقى وحدها غضب الناس وعبوات “المولوتوف”، يتكرر اليوم بصيغة أخرى، إذ لا يزال القطاع المصرفي هدفا مركزيا عند الساعين الى إرهاقه بأحمال الإتهامات الشعبوية، والأحكام القضائية التي لا تتبنى وحدة المعايير، والأخطر هو شراكة بعض السلطة، والدور الخفيّ الذي يمارسونه، في شيطنة المصارف، وتحشيد الناس بمواجهتها، وتوجيه القضاء.
المصارف الموصدة تعني أن ما بقي فاعلا وعاملا من الاقتصاد سيتعرض بدوره لإرباكات وعجز في قدرته على الاستمرار في وظيفته. فهل تبادر الدولة الى ابتداع حل أو تسوية “على اللبناني” واستعادة دورها في حماية القطاعات الاقتصادية ومصلحة مواطنيها، خصوصا بعد جنون سعر صرف الدولار وتاليا الاسعار أخيرا؟
لا تشي المعلومات المتوافرة حتى الآن، بأن بعض اعضاء جمعية المصارف في وارد التراجع عن قرار الاقفال متسلحين بعدم وجود معطيات ايجابية من المعنيين في الدولة والقضاء، اضافة الى ورود تهديدات “شعبوية” من جمعيات تدّعي حماية حقوق المودعين باقتحام مكاتب ومنازل اصحاب المصارف ومديريها. ويستند اصحاب هذا الموقف ايضا، الى أن حوار “الكواليس” لم يؤدِّ حتى الساعة الى طمأنة المصرفيين والقطاع بعدم تكرار مشاهد “الاستهداف”، والقرارات القضائية التي كانت السبب الرئيسي في دفع المصارف الى اعلان الاضراب.
في المقابل، يميل أعضاء آخرون في مجلس ادارة الجمعية الى وقف الاضراب والعودة الى العمل، وحجتهم أن المصارف بإقفالها أبوابها تضع نفسها في مواجهة الناس وتزيد من النقمة والغضب عليها، ناهيك عن الارتفاع الجنوني للدولار الذي أُلصِقت تهمة ارتفاعه بإضراب المصارف. اصحاب هذا الموقف ينصحون بالتعجيل في إعلان وقف الاضراب والبدء بالتمهيد لدفع رواتب القطاع العام والموظفين أواخر الشهر الجاري.
التباين بين مواقف اعضاء الجمعية يحسمه اجتماع مجلس الادارة بعد ظهر اليوم في حال لم تطرأ تطورات تعيد الامور الى الصفر.
فإلى متى ستستمر حالة فقدان الثقة بين المصارف والدولة، والى أين يذهب المعنيون بالقطاع المصرفي، والى متى يتحمل المواطن والبلاد تبعات العبث والطفولية في أداء المسؤولين؟
الأمين العام لجمعية المصارف فادي خلف أكد لـ”النهار” أن اضراب المصارف “لا يهدف الى شلّ البلاد، فهو اضراب جزئي لا يعدو كونه موقفا من الاجراءات القضائية التعسفية في حقها. فالمصارف، وإن خففت من اعمالها اليومية، لكنها لا تزال تسمح باستخدام الـ ATM وتسهل عمليات فتح الاعتمادات للاستيراد والتصدير للشركات عموما، أما صيرفة فالامر يتعلق بحاكم مصرف لبنان الذي علّق اعمالها طالما أن القطاع مستمر في الاضراب، علما أن لا مانع للمصارف في البحث بطريقة أو إجراء ما لتسهيل أمور صيرفة في حال تراجع الحاكم عن قراره”.
وأكد خلف أن القرار بتعليق الاضراب لم يُتخذ كما أشيع أمس، وفي حال كانت ثمة نيّة في ذلك فإن الجمعية ستعلنه من خلال بيان يصدر عنها فقط. وإذ لفت الى أن الجمعية العمومية فوّضت الى مجلس الادارة اتخاذ القرار المناسب في شأن الاضراب تمديدا أو تعليقا، أوضح ان ثمة اجتماعا لمجلس ادارة الجمعية بعد ظهر اليوم. وبما أن لا تطورات قضائية طرأت حتى اليوم، أكد خلف أن هذا الامر أساسي في قرار الجمعية، وتاليا لا سبب يدفعها الى تعليق الاضراب.
أمام هذا الواقع، ومع الاتجاه الى الاستمرار بالاضراب، انتقد الخبير المالي والمصرفي نيقولا شيخاني القرار الذي يضر برأيه بمصلحة القطاع عموما قبل الضرر بالمودعين. “فالعميل المصرفي هو بمثابة “الملك” ولا يجوز لأي مصرف أن يأخذه مع المودعين كافة رهينة لتحقيق مطالب لها علاقة بالقضاء”.
وقال: “لا يوجد مصرف في تاريخ البشرية اتخذ قرارا بالاضراب أو الاقفال، فقرار الاضراب يضرب الثقة بالقطاع المصرفي ويتناقض مع العمل على تكوين استمرارية الثقة بالقطاع وتفادي أي Bank Run”. وتمنى على المصارف الرجوع عن قرارها بالاضراب، واللجوء الى القضاء لرفع الغبن القضائي عنها، مستندا في ذلك الى شعر المتنبي (يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي، فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ). توازيا، دعا شيخاني المصارف الى التحاور مع المودعين “لبناء الثقة ووضع حلول بناءة تضمن الودائع وترضي الطرفين”.
الاضراب اليوم، برأي شيخاني، “يشكل عائقا للنمو الاقتصادي، ويساهم في ارتفاع سعر الصرف مع انعدام وجود صيرفة، عدا عن أنه يضر بالمواطنين كافة، كونه يؤدي الى ضرب قوتهم الشرائية من خلال تدهور سعر الليرة”.
الى ذلك، رأى شيخاني أنه “حان الوقت لأن تقوم الدولة ومصرف لبنان بوضع خطة مناسبة وعادلة لاعادة هيكلة ديونهما وجدولتها، ومن ثم اعادة هيكلة القطاع المصرفي لبناء اقتصاد جديد سيؤدي حتما الى تفاؤل بالنمو، وذلك يمر من خلال خطة تعافٍ عادلة من خلال التدقيق المالي الذي طلبه صندوق النقد لتحديد تراتبية المسؤوليات لكل من الدولة ومصرف لبنان والمصارف، علما ان العلاقة التعاقدية هي بين المودع والمصرف، وبين المصرف ومصرف لبنان والدولة، ومن ثم بين مصرف لبنان والدولة. الاضراب لا يخدم المصارف، كونه يؤدي الى إساءة السمعة بالمصارف داخليا وخارجيا مع المصارف المراسلة، وعاجلا أم آجلا سيتم رفعه، إلا إذا كان قرارها بإعلان التوقف عن الدفع بحجة أن ليس لديها سيولة”، وفق ما يقول شيخاني.
مسؤولية الدولة برأي شيخاني، هي في “هدر الاموال وسوء ادارتها بدليل إنفاقها 35 مليار دولار على قطاع الكهرباء، فيما لا نزال نعاني حتى اليوم من الانقطاع شبه التام للتيار، وإنفاق 100 مليار ديناً على سعر صرف 1500 ليرة من دون أن نلاحظ اي تحسن بالبنى التحتية، اضافة الى الحصول على قرض 16.5 مليار دولار من مصرف لبنان من دون تحديد وجهته. أما مسؤولية مصرف لبنان فهي انفاق مليارات الدولارات لتثبيت سعر الصرف على مدى 20 عاما في حين كانت موازنة الدولة سلبية وميزان المدفوعات سلبي منذ العام 2011، اضافة الى دعم غير موجّه كلف مصرف لبنان نحو 20 مليار دولار في السنوات الثلاث الماضية فقط ومن ثم رفع الدعم بعد إفادة المحظيين منه، وكل ذلك من أموال المودعين”.
ماذا عن المصارف؟ يقول شيخاني: “مسؤوليتها أنها خاطرت بأموال المودعين كونها وضعت كمية هائلة منها في سلة واحدة بالعملة الاجنبية (دولار) في مصرف لبنان، بدلا من توزيع المخاطر. كما أنها اشترت كمية كبيرة من سندات اليوروبوندز من الدولة اللبنانية، مع علمها أن موازنة الدولة سلبية وكذلك ميزان المدفوعات، علما أن تعرّضها للمخاطر على مصرف لبنان والدولة كان يفوق بأشواط المعايير العالمية التي تنصح بانكشاف لا يتعدى الـ25% من رأسمالهم”.
ويقول: “الارباح الهائلة التي حققتها المصارف كانت على حساب سوء الحوكمة، وسوء الادارة، وسوء ادارة المخاطر، بما أدى الى أزمة المصارف التي انعكست على المودعين بعدما تعثرت الدولة عن دفع اليوروبوندز. وعندها تبين أن مصرف لبنان لديه فجوة 72 مليار دولار هي أموال المودعين التي انفقت بين مصرف لبنان والدولة اللبنانية”.