القطاع المصرفي ينتفض ويقفل مؤسّساته “حتى إشعار آخر”… فحيلي: تجييش القضاء ضدّ المصارف يعوق المساعي لإعادة الهيكلة

القطاع المصرفي ينتفض ويقفل مؤسّساته “حتى إشعار آخر”… فحيلي: تجييش القضاء ضدّ المصارف يعوق المساعي لإعادة الهيكلة

يعيش لبنان راهناً زمن الفراغ وانسداد الأفق في كل شيء، وخصوصاً في مواقع القرار الأولى في الدولة. تسود الفوضى والعشوائية والشعبوية، في إدارة ومعالجة الملفات والازمات الحساسة، التي تعني معظم اللبنانيين، وعلى تماس لصيق بمصالحهم وحاجاتهم. يترجم هذا الارتباك الشامل، في التعاطي الرسمي والقضائي، مع القطاع النقدي والمصرفي، الذي يعاني أقصى درجات الانهيار، وفقدان السيولة والثقة والرعاية الرسمية، بما سمح لعوامل وعناصر غير صحية ومشبوهة، بالدخول على الخط، والاستثمار السياسي، الايدولوجي، والشعبوي أحياناً، لقضية المودعين، وحقوقهم المشروعة، وحاجة بعضهم الضرورية للطبابة أو التعليم.

ما حصل أخيراً مع “#فرنسبنك“، من حجز على موجوداته، حصل ويحصل مع مصارف أخرى، في لبنان والخارج، ويعزز الشكوك حول النيات والأهداف الكامنة خلف هذه القرارات، ويؤكد صحة موقف #المصارف، ومطالبتها بالإقرار الفوري والسريع لقانون الكابيتال كونترول، الذي يضبط وينظم العلاقة بين المودع ومصرفه من جهة، ويحمي المصارف من السقوط الكلي، ويحافظ على ما بقي من موجوداتها وسيولتها، لتتمكن متى سمحت الحال السياسية والاقتصادية، من النهوض مجدداً، وإعادة الثقة التي فُقدت بالقطاع الى سالف عهدها، والمشاركة في معركة النهوض والإنقاذ.
قرار الحجز على موجودات “فرنسبنك” يقع وفق مطلعين، في خانة العمل المجهول المعلوم أهدافه. فهو “في ظاهره ضمانة لحقوق مودع ادّعى لدى #القضاء، وهذا حق، ساندته فيه، وأعانته مجموعات من المجتمع المدني، ممّن يرعون ويتبنّون الصراع ضد المصارف تحديداً، ويصرون بصورة ملتبسة، على تحميلها بمفردها أسباب الانهيار والأزمة. أما في المضمون فهو محاولة مكشوفة لفرض أمر واقع جديد على القطاع المصرفي، عبر استخدام القضاء، وتشجيع المودعين في لبنان وخارجه، للادعاء على مصارفهم، والحجز على أملاكها وموجوداتها”.
ويرى مطلعون أن “ما جرى تداوله أخيراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من بيانات تحث المودعين على التعاون مع أحد المكاتب المعروفة في لبنان والخارج، المتطوع وفق البيان، لتكليفه الادعاء على مصارفهم، يشي بأن شيئاً ما يُطبخ للقطاع المصرفي، وأن ما كان يخافه المصرفيون من أحكام قضائية في الخارج، تضع اليد على موجوداتها واستثماراتها خارج لبنان، انتقل الى الداخل اللبناني، ولم يعد مشروع تصفية مصارف لبنان خفياً، خدمة ربما لمشروع المصارف الخمسة، الذي لم يغادر أذهان اللاعبين، والمتلاعبين بهوية لبنان الاقتصادية والاجتماعية”.
تجنبت مصارف لبنان مرات عدة، الاصطدام المباشر بالمودعين، أو بمن يدّعون تمثيلهم، في محاولة منها لمعالجة المشاكل والأمور العالقة، بالحد الادنى من التسويات التي تخدم حاجة المودعين الملحة، وتراعي إمكانات المصارف وسيولتها حالياً، لكن تفاقم حركة استهداف المصارف، إما بالاعتداء المباشر على فروعها وموظفيها، أو عبر القرارات القضائية، جعل الكيل يطفح، ودفع بجمعية المصارف الى إعلان الإضراب، والتوقف عن العمل، احتجاجاً على ما تراه استهدافاً مقصوداً، وتعامل القضاء معها بمكيالين. ويؤكد الأمين العام لجميعة المصارف فادي خلف لـ”النهار” أن الإضراب مستمر حتى إشعار آخر، خصوصاً أن الجمعية قامت بكافة الاتصالات مع المعنيين قبل إعلان الإضراب، وهي في انتظار التجاوب معها خصوصاً في ما يخص إقرار الكابيتال كونترول”.
ليس مفهوماً ما يحصل، والمؤكد أنه ليس بريئاً، وفق ما تقول مصادر مصرفية. لكن “الثابت الوحيد في هذه العجالة الدنيئة، أنه يجري التلاعب بالمودعين، والذهاب بهم وباسمهم، الى مشاريع لا تخدم قضيتهم، ولا تعيد لهم حقوقهم، وتقضي على أي أمل أو قدرة على إستعادتهم لجنى أعمارهم مستقبلاً، وتحيل المؤسسات المصرفية الى ركام، لن تنفع معها أي وصفات للإنقاذ، عندئذ، لن ينفع أحداً من المودعين أو في الدولة الغائبة، عض أصابع الندم”. فما جدوى اللجوء إلى القانون والدستور والقضاء لحل المشاكل المرتبطة بأموال المودعين؟ تحاول نقابة المحامين إقناع المودعين بجدوى العودة إلى قانون 2/67 المعروف بـ”قانون إنترا” لتفعيل العمل على استرداد أموال المودعين. ولكن المشكلة برأي خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد محمد فحيلي ليست في القانون بل في ما نحن عليه اليوم وما كان لبنان عليه آنذاك. كان من مميزات تلك الحقبة (1967) ممارسة المجلس النيابي دوره في النقاش السياسي، وكان هناك حرص داخل المجلس على فصل النقاش القضائي عن النقاش السياسي – عبر إقرار أغلب النواب بالسلطة القضائية، وعلى فصل النقاش السياسي بين سياسة (مالية) خارجية محكومة بتوازنات يضمنها غالباً رئيس الجمهورية، وسياسة (مالية) داخلية وهي المجال المتاح للمجلس للخروج بتشريعات إصلاحيّة أو رجعية في النظام. ولم تكن من معارضة فعليّة للنظام أو لصيغة التوازنات القائمة من داخل المجلس”.
الكل بات يعرف ويعترف بأنه حين يجازف مصرف ما بأموال ليست له (أموال المودعين)، فهو يجازف أيضاً بالثقة بالقطاع الائتماني ككل، علماً بأن هذه المجازفة برأي فحيلي يعظم شأنها في اقتصاد جعل قائماً في بنيته على الخدمات المالية والتجارية وودائع المغتربين وودائع “ريع نفط الخليج العربي”، وكيف يصبح حجم المشكلة وطبيعتها وتعقيداتها إذا قام بالمجازفة كل المصارف وفي مقدمهم المصرف المركزي!
ظهر أخيراً بعض المحامين الذين يدّعون اهتمامهم بمصير الودائع والمودعين ويتوجهون نحو تجييش المودعين وحثهم على تشكيل أكبر مجموعة ممكنة لرفع الدعاوى على المصارف التجارية العاملة في لبنان، من الداخل والخارج، في الوقت الذي تنشط فيه اللجان النيابية لمناقشة مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف والانتظام المالي. ولكن من دون التخفيف من أهمية اللجوء إلى القضاء في حل النزاع بين المودع والمصرف في “الظروف الطبيعية”، ومن دون التخفيف من أحقية وأهمية ما يطالب به المودعون، يؤكد فحيلي أن ما جرى خلال السنوات الثلاث الماضية، بين المصارف والمودعين لا يمكن أن يصنف أو يوصف بأنه “ظروف طبيعية”، إذ إن “عدم الاستجابة لطلبات المودعين بالسحب نقداً أو/و التحويل إلى الخارج كان إجراءً غير قانوني، ولكنه كان ضرورياً آنذاك وساعد على استمرار المصارف في خدمة المودع والاقتصاد ولو جزئياً. أما الاستنسابية في التعاطي مع الزبائن فهي خطأ وتصرّف لا يتناغم مع المناقبية المهنية، ولكنه ليس بجريمة، فيما امتناع المصارف عن التواصل الإيجابي مع المودعين للحد من التوتر بين الطرفين ساعد في توسيع الشرخ بين الطرفين وزاد من منسوب الـ”لا ثقة” بينهما، ولكنه أيضاً ليس بجريمة. لا ينفي فحيلي أنه كانت “ثمة ارتكابات وممارسات غير قانونية من مكوّنات القطاع المالي في لبنان، ولكن عندما نتحدث عن الجرائم وتدمير الاقتصاد والمجتمع اللبناني يجب المباشرة من الطبقة السياسية الفاسدة والفاشلة. فالجريمة الكبرى ارتكبتها مكوّنات الطبقة السياسية الحاكمة، وتالياً فإن الدعاوى القضائية يجب أن تكون في هذا الاتجاه وليس ضد المصارف فقط”.
وفق فحيلي فإن “تجييش القضاء ضد المصارف يعوق المساعي لإعادة هيكلة القطاع. فإعادة الهيكلة وعودة الحياة إلى القطاع، تتطلب ضخ رأسمال جديداً ونظيفاً. من المستحيل إقناع أصحاب رأس المال باستثمار أموالهم في مؤسسات تعاني من فائض من الدعاوى ضدها إضافة إلى الاتهامات الموجهة ضد القيّمين على المؤسسة. فالعمل المنتج يكون، أولاً، في طمأنة المودعين على أموالهم عبر إطلاق عجلة التفاوض بين المصارف (كل مصرف على حدة) والمودعين (الدائنين)، والتوجّه نحو تنظيم العلاقة بين المصارف والمودعين والزبائن عموماً”.
بعد ثلاث سنوات على الأزمة والأزمات المتفاقمة، لم يعد هناك أي قاسم مشترك يجمع بين المصارف لا من جهة الودائع ولا المخاطر التي تواجهها، لذا يجب العودة إلى تفعيل الشمول المالي ((Financial Inclusion، وإطلاق عجلة التواصل الإيجابي بين الطرفين من أجل المحاولة الجدية لإعادة ترميم الثقة. وهذا ليس لأن المصارف لم تخطئ، فالمصارف أخطأت ولكن أخطاءها لا تصل الى حدّ توصيفها وتصنيفها بأنها جرائم. أما المحافظة على أموال المودعين فتكون برأي فحيلي المحافظة على القطاع المصرفي (وليس على كل مصرف) من خلال إعادة هيكلة المصارف، ودعم القادر منها على الاستمرار في خدمة الاقتصاد. فالممرّ الإلزامي للإنقاذ والتعافي والنمو الاقتصادي هو قطاع مصرفي سليم”.
السلطة الفاسدة والفاشلة، باعتراف الشعب اللبناني والأسرة الدولية، لن ولم تعمل على إنقاذ لبنان، الوطن والمواطن، لأن كل ما يهمّها هو المحافظة على مكاسبها السياسية. من هنا يدعو فحيلي الى استيلاد المبادرات والحلول من رحم القطاع الخاص والمواطن. فكما بنينا بيروت بعد تفجير مرفأ بيروت في آب 2020 علينا بناء ما استطعنا من الاقتصاد، إذ “لو تأمّن كل ما يحتاج إليه لبنان من أموال، وربح كل المودعين دعاواهم ضد المصارف، فلن يعيد ذلك قطرة من الثقة المفقودة بين المصارف والمودعين. لذلك لا بديل من إطلاق عجلة التواصل الإيجابي والتفاوض بين المصارف والمودعين لعودة الحياة والانتظام للقطاع”.
ويخلص فحيلي الى أن رسالته هي للتأكيد أنه “لا جدوى اقتصادية من اللجوء إلى الدعاوى ضد المصارف وتقديمها على أنها الطريق الأوحد والأمثل للحصول على أموال المودعين”.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار