هل تستنزف “صيرفة” وتعاميم “المركزي” احتياطات مصرف لبنان الأجنبية؟

هل تستنزف “صيرفة” وتعاميم “المركزي” احتياطات مصرف لبنان الأجنبية؟
عند كل استحقاق تفشل السلطة السياسية فيه باتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من التدهور المالي والاقتصادي، وإنقاذ ما تبقّى من أوراق ومقومات صمود، يبادر #مصرف لبنان بالتدخل للحد من الأضرار، ولإعادة ترتيب الواقع على نحو يسمح للمرافق والمؤسسات بالقيام بوظائفها، فينقذ ماء وجه الدولة في اللحظة الأخيرة. مبادراته التي أقدم عليها إن من خلال منصة “#صيرفة” أو عبر التعاميم التي صدرت، لجمت الى حد ما إندفاعة تدهور سعر صرف الليرة لفترة معقولة، على أمل أن تستعيد الدولة وعيها، وتستفيق على دورها ووظيفتها، فتسارع الى إقرار الإصلاحات المطلوبة منها وتنفيذها.
 

آخر قرار أصدره مصرف لبنان، ذي صلة بحماية ما تبقى من قدرة شرائية لليرة، كان قبل نهاية عام 2022 بأيام، عندما تجاوز سعر صرف الدولار الـ47 الف ليرة، مهددا بتجاوز الخمسين ألفا، فأعلن “المركزي” استعداده لبيع الدولار للجمهور على منصة “صيرفة” بسعر 38 الف ليرة لجميع الراغبين في شرائه، ومن دون تحديد سقف مالي، بما تسبب بهبوط سعر الدولار في أقل من ساعة، وعلى نحو دراماتيكي الى 42 الف ليرة، وشكّل ذلك صاعقة للمراهنين على ارتفاع سعر الصرف الى 50 ألفاً.

القرار الاخير لمصرف لبنان يستند الى إستراتيجية ضخ الدولارات في السوق وشفط الليرة وخفض نسبة التضخم، عبر دعم الليرة، لخفض سعر الدولار، لكن البعض يشير الى أن ما يضخه مصرف لبنان عبر منصة “صيرفة” يستنزف احتياطاته بالعملات الأجنبية، مستندين الى حجم التداول الذي أُعلن على منصة “Sayrafa” في أول يوم عمل من السنة الجديدة 2023، والذي بلغ نحو 310 ملايين دولار بمعدل 38 الف ليرة للدولار الواحد وفقا لأسعار صرف العمليات التي نفذت من المصارف ومؤسسات الصرافة على المنصة… فهل صحيح أن مصرف لبنان ضخ كل هذا المبلغ في يوم واحد؟

تؤكد مصادر مطّلعة ان حجم التداول اليومي على منصة “صيرفة” الذي يصدره مصرف لبنان يتضمن ما باعه وما اشتراه من دولار اميركي، اضافة الى عمليات بيع وشراء الدولار التي قامت بها المصارف ومؤسسات الصرافة، وتاليا فإن مبلغ الـ 310 ملايين دولار يتضمن مجموع الدولارات التي حصل عليها ودخلت الى مصرف لبنان من شركات تحويل الاموال وتلك التي دفعها للمصارف، تضاف اليها عمليات المصارف والصرافين التي تسجَّل على “صيرفة”. على سبيل المثال، قد يكون دخل الى حسابات مصرف لبنان يوم الثلثاء 3 كانون الثاني 2023 نحو 155 مليون دولار وخرج منها مبلغ مماثل أي 155 مليون دولار، وتاليا سيصبح المجموع العام المعلن عنه لعمليات منصة “صيرفة” 310 ملايين دولار. باختصار، إن منصة “صيرفة” لا تمثل الاموال التي خرجت من مصرف لبنان فقط بل تلك التي دخلته ايضا.

يقول خبير المخاطر المصرفيّة الدكتور محمد فحيلي لـ”النهار” إن منصة “صيرفة” هي “من أهم الأدوات المتوافرة بأيدي السلطة النقدية وهي الأكثر تأثيرا في الإقتصاد لإدارة سعر صرف الدولار والحد من الضغوط التضخمية. المنصة، حتى هذه اللحظة، مخصصة لعرض (لبيع) الدولار بسعر مدعوم من مصرف لبنان وليست منصة للتداول الحر (عرض وطلب من دون قيود)، والحديث عن هذه المنصة لجهة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية وتداعياتها التضخمية، والكتلة النقدية بالدولار الفريش، وأن لبنان لا يزال غارقا بأزماته من دون أفق والآتي أعظم… لا يستند إلى معطيات دقيقة ويعتمد أسلوب الترغيب والترهيب وليس لعرض الأمور بموضوعية وكما يجب”. ورغم بعض السلبيات للتعاميم التي يصدرها حاكم مصرف لبنان بين فترة واخرى، بيد أن لها تأثيراتها الايجابية حيال عودة الدماء إلى عروق القطاع المصرفي من خلال الحسابات الفريش وتنشيط التحاويل من وإلى خارج لبنان بعدما توقفت نهائيا غداة التعثر غير المنظم عن سداد إستحقاق اليوروبوندز. فالتعميم 151 مثلا أسس لقواعد اشتباك جديدة بين المصارف والمودعين سهلت ووفرت الوصول إلى أرصدة الحسابات المصرفية التي كان أصحابها فقدوا الأمل بالوصول إليها، ومكنتهم من توظيفها في تمويل فواتير الإستهلاك للأفراد والمصاريف التشغيلية (من رواتب وأجور وغيرها) للمؤسسات. كذلك ساهم بالسماح للمؤسسات باستعمال أرصدتها لدفع الرواتب والأجور ما ساعد كثيرا بالتخفيف من أعباء هذه المصاريف التشغيلية، وسياسة مصرف لبنان أعطت دعما معيشيا إضافيا للمستفيدين.

هذا المتنفس ساهم برأي فحيلي بمساعدة المستهلك ومؤسسات القطاع الخاص على الصمود في وجه الأزمات الإقتصادية والمعيشية، لكنه جاء على حساب القطاع العام لأن إيرادات القطاع الخاص كانت تواكب سعر صرف الدولار في السوق الموازية. أما إيرادات القطاع العام (من ضرائب ورسوم) فبقيت على سعر الصرف الرسمي، أي 1،500 ليرة للدولار الواحد.

وأما التعميم الأساسي الرقم 161 الذي صدر في نهاية العام 2021، فجاء وفق ما يقول فحيلي ليؤكد أن إدارة الإقتصاد الوطني ستكون من مهمة “المركزي” حتى تستيقظ مكونات الطبقة السياسية وتطلق مسيرة الإصلاح المطلوبة. وكأن مصرف لبنان إستوعب بذلك خفايا السوق الموازية وقواعد إشتباك المحتكرين والمضاربين في الأسواق، وقرر توظيف ما توافر له من إمكانات لتوفير السيولة لتسديد فواتير المصاريف التشغيلية للدولة مع الحد من الضغوط التضخمية وتأمين الحد الأدنى من الإستقرار في سعر الصرف وفي أسعار السلع الإستهلاكية.

ويعتبر فحيلي أن “التعميم 161 أسس لمجلس نقد (Currency Board)من دون الإعلان عنه رسميا، فيما يحافظ مصرف لبنان على كتلة نقدية بالدولار يوظفها، أولا، لدعم الكتلة النقدية المطلوبة بالليرة اللبنانية لتسديد رواتب وأجور موظفي القطاع العام (الحلقة الأضعف في الإقتصاد الوطني حاليا)، وثانيا لتجفيف السوق من الفائض من الأوراق النقدية بالليرة اللبنانية من خلال إستبدالها بالدولار، في حين أن جزءا من هذه الكتلة يوظف لتأمين بعض الدولارات للقطاع الخاص”. ووفق فحيلي فإنه “يتم تدوير (recycling) هذه الكتلة عارضا وطالبا الدولار مقابل الليرة وفق ما تستدعي الحاجة: يعرض الدولار عبر منصة صيرفة، ويطلبه في السوق الموازية، خصوصا أنه اللاعب الأكبر كونه يحمل الكمّ الأكبر من الأوراق النقدية. أما العرض والطلب فيوظف ليس للتأثير على سعر صرف الدولار بقدر ما هو لضبط التضخم وتكريس الاستقرار النقدي ولو ان ذلك يحصل على سعر صرف مرتفع نسبيا. ولكن الأهم برأيه أنه كان للتعميم 161 حصته بالمساهمة في تمكين المستهلك، صاحب الدخل المحدود، من الصمود.
 
الى ذلك، يرى فحيلي أن “طباعة العملة تساهم في إنتاج ضغوط تضخمية إذا تم توظيف مجملها في تحريك العجلة الإقتصادية، ولهذا يجب عدم إحتساب الكمية المخزنة كجزء من الكتلة النقدية عند دراسة وتقييم التأثيرات التضخمية لطباعة العملة. من هنا يضطر مصرف لبنان الى أن يلجأ من وقت إلى آخر إلى إستهداف الأوراق النقدية المخزنة بالليرة عندما يرفع الضوابط عن طلب الدولار عبر منصة صيرفة (لحاملي الأوراق النقدية بالليرة من دون حدود)، والمخزنة بالدولار الفريش من خلال إنتاج سعر صرف مغر للدولار في السوق الموازية”. أمام هذا الواقع، “يجب إبقاء منصة صيرفة وتوظيفها حصريا لصرف الرواتب والأجور لأن فتحها أمام حاملي الأوراق النقدية من دون حدود يشجع على التخزين والمضاربة واحداث إضطرابات في سعر الصرف عوضا عن التقلبات في سعر الصرف والتي هي من ضمن التوقعات”.