يخال للمتجول في المناطق اللبنانية عامة، وفي بعض قرى البقاع وعكار خاصة، أنه يسير في مومباي الهندية، أو كابل العراقية، أو حتى الدويقة المصرية. القاسم المشترك بين هذه العشوائيات الفقيرة هو تحول التوكتوك من وسيلة نقل فردية (دراجة)، إلى مهنة قائمة بحد ذاتها. فارتفاع أسعار البنزين، وتراجع فرص العمل في الزارعة والبناء وإصلاح السيارات، والزيادة الكبيرة التي لحقت في إيجارات المحلات… عوامل دفعت سائق الاجرة والبناء والمزارع والتاجر والحرفي، إلى الاستثمار بشراء التوكتوك الذي يكلف حوالى 3000 دولار، لتأمين القوت كل يوم بيومه. وهكذا تحولت هذه الوسيلة الهندية المنشأ سيارة أجرة، ومحل بقالة متنقلاً، وخدمة توصيل البضائع، ومقهى ومطعماً وقاطرة لاخواتها المعطلة… والقائمة تطول من ابتكارات فرضها الواقع المر.
استغلال الفوضى
معذورون “مستثمرو” التوكتوك، سواء كانت الشركات المستوردة، أو الذين رأوا في هذه الوسيلة خلاصهم من جحيم الفقر. فـ”الطبيعة تكره الفراغ” على حد وصف أرسطو. وإن لم تملأه المؤسسات الانتاجية الشرعية سيملأه اقتصاد الظل بمهن ظرفية، يخشى أن تتحول إلى دائمة في ظل استمرار ضعف الدولة، ووجود نية مبطنة لتصفية الاقتصاد الشرعي. فـ”هناك من يستفيد من الأزمة وما تنتجه من تطورات للاستمرار في خراب البلد، وعدم قيام النقل العام المنظم والشرعي”، بحسب الباحث في ميدان النقل شوقي حاطوم. “ما يؤدي إلى تحقيق أهدافه بهدم دولة القانون والمؤسسات، ليبني دولته على أنقاضها”.
وليد الحاجة
غالباً ما تترافق ظاهرة التوكتوك مع تخلف الاقتصادات وليس تقدمها. فبعدما لم يكن لهذه الوسيلة وجود فعلي في لبنان قبل العام 2019 ارتفع العدد اليوم إلى الآلاف. ومع تعمق الازمة الاقتصادية أكثر، وتراجع الناتج المحلي إلى أقل من 20 مليار دولار وانهيار القدرة الشرائية للرواتب والاجور بالليرة اللبنانية سيزيد استعماله أكثر. فالمواطن الذي لم يعد بمقدوره تحمل كلفة التنقل بالسيارة الخاصة، سيعتمد على التوكتوك، خصوصا في ظل غياب النقل العام. إذ أنه في الوقت الذي تستهلك فيه السيارة صفيحة بنزين بقيمة 623 ألف ليرة لكل 150 كلم تقطعها، يسير التوكتوك لمسافة 700 كلم بـ 20 ليتراً. و”هذا ما أدى إلى ارتفاع الطلب عليه”، بحسب رئيس تجمّع سيدات ورجال الأعمال اللبنانيين RDCL وصاحب شركة “ANB أبو خاطر” نيكولا أبو خاطر. بالاضافة إلى أنه يتسع لثلاث ركاب في حين أن متوسط عدد ركاب السيارة في لبنان هو 1.5 شخص. الامر الذي أدى إلى دفع العائلات إلى التهافت عليه من أجل الوصول إلى الاشغال أو إيصال الاولاد إلى المدارس أو الذهاب إلى السوق… وغيرها الكثير من الوظائف، التي لم يعد بمقدور المواطنين استعمال السيارات من أجل إتمامها”.
استعمالات التوكتوك لم تقتصر في لبنان، كما في كل البلدان الذي ينتشر فيها، على النقل إنما تعدّتها إلى وسيلة لتحقيق الدخل في ظل ارتفاع البطالة وتقلص فرص العمل، و”هو ما ساعد الكثير من العائلات على الصمود في ظل هذه الظروف الصعبة”، بحسب أبو خاطر كما أدت زيادة الطلب إلى إنشاء “خط تجميع” يوظف عشرات العمال من أجل جمع هذه الدراجات التي تأتي إلى لبنان مفككة”. ويلفت أبو خاطر الى أن “التوكتوك ليس وسيلة النقل الوحيدة التي تلاقي رواجاً في لبنان بسبب ارتفاع اسعار المحروقات وأكلاف الصيانة إنما أيضا الدراجات الكهربائية والدراجات الهوائية الكهربائية. فمع تراجع مبيع السيارات الجديدة بأكثر من 90 في المئة، نشأت الحاجة إلى بدائل عملية فكانت هذه الوسائل المتنفس للكثير من الافراد والمؤسسات”.
لا يوجد تصنيف للتوكتوك
غياب التنظيم عن القطاع يبدأ بعدم وجود تصنيف للتوكتوك بعد في لبنان. فهو يسجل بحسب رئيس مصلحة تسجيل السيارات أيمن عبد الغفور، كدراجة نارية. و”لهذا يصعب إحصاء العدد الفعلي لهذه الآليات. مع العلم أن المعلومات شبه المؤكدة تلحظ وجود بين 700 و800 توكتوك مسجل بشكل رسمي منذ العام 2020 ولغاية اليوم. في حين أن العدد الفعلي الموجود في الشوراع قد يتخطى هذا الرقم بأضعاف. فالكثير من المواطنين الذين يستعملون هذه الآلية في القرى والارياف لا يرون داعياً لقوننتها وتسجيلها؛ أولا لعدم معرفتهم بانها خاضعة للتسجيل كونها تعتبر دراجة نارية وتستلزم دفع الميكانيك. وثانياً لاقتصار الاستعمال على الاحياء الداخلية في القرى والارياف وعدم السير به على الطرقات العامة”. اما من الناحية الثانية فيلفت عبد الغفور إلى أن “الكثير من الآليات المشابهة للتوكتوك والتي تقل قوة محركها عن 1000 واط لا تحتاج إلى التسجيل، إلا أن هذه الفئة ما زال عددها قليلاً. ويلفت عبد الغفور إلى “ضرورة تعديل القوانين لكي يصنف التوكتوك كفئة مستقلة ومختلفة عن الدراجات النارية، وتحديد وظائفه بشكل دقيق. وهذا ما لم يلحظه النص التشريعي الاساسي الصادر في العام 2012 عندما لم تكن بعد ظاهرة التوكتوك منتشرة في لبنان. بعدها يصبح من السهل تنظيم هذه الفئة من الآليات، وملاحقة المخالفة منها”.
سوء الاستعمال
المشكلة الثانية تتمثل في سوء استعمال التوكتوك. حيث يجلس فيه 4 أشخاص إضافة إلى السائق، الامر الذي يعرض السلامة العامة للخطر، بنسبة تتجاوز 90 في المئة، بحسب حاطوم. “كما أن حلوله مكان سيارات الاجرة، أدى إلى انخفاض سعر النمرة الحمراء من 35 ألف دولار إلى 5000 دولار، وإضافة مشكلة جديدة على هذا القطاع الذي يعاني أساسا من التزوير المنظم والمقونن”.
البديل موجود… ولكن!
البديل عن التوكتوك يكون بوجود نقل عام منظم لا ينحصر في المدن الكبرى، إنما يطال أيضا الارياف وصولاً حتى المناطق النائية”، من وجهة نظر حاطوم. و”يمكن استخدام الباصات والميني باصات المنتشرة بكثافة في كل المناطق في هذه الخطة التي تكلف بين 500 مليون دولار و2 مليار بالحد الاقصى، وتوفر على المواطنين المبالغ الطائلة التي يتكبدونها على النقل، وتخفف عن موازنة الدولة الاكلاف الكبيرة. خصوصاً مع رفض موظفي القطاع العام أن يكون بدل النقل عن اليوم الواحد 95 ألف ليرة، ومطالبتهم برفعه إلى أكثر من 200 ألف أو استبداله بقسائم بنزين. الامر الذي لا طاقة للدولة على تحملة.
كثرة الحديث عن الاقتصاد المننتج منذ العام 2019، كبديل عن الاقتصاد الريعي المنتشر، أدت إلى “حمل” البلد بالافكار التي وصلت إلى حد المناداة بالزراعة على الشرفات والبلاكين. وبعد نحو ثلاث سنوات على “حبل” الازمة المتفلتة من أي معالجات، كانت النتجية ولادة اقتصاد “التوكتوك”. خطورته أنه لا ينحصر بتأمين قوت كل يوم بيومه، إنما بجنوحه بالاقتصاد أكثر نحو الاعمال “الميكرو – صغيرة” على حساب الانتاج الحقيقي.
الفقر وتراجع النمو يُدخلان إلى الشوارع أساليب نقل جديدة لم تكن معروفة سابقاً الأزمة “تحبل” بنظريات الإقتصاد المنتج و”تلد” إقتصاد التوكتوك
العشوائية تجتاح الاقتصاد في زمن الانهيار، وتعززه أكثر. المصالح التقليدية، ولا سيما منها الفردية الصغيرة “تذبل”، لتنشأ على جوانبها مصالح جديدة لا تقدم قيمة مضافة كبيرة للاقتصاد. من هذه المصالح تبرز وسيلة النقل “التوكتوك”، التي تمعن نتيجة غياب الدولة وانعدام التنظيم، في “صبغ” الاقتصاد المأزوم أصلا بـ”ألوان” تقلص الانتاج الحقيقي.