ما حقيقة “إفلاس لبنان”؟.. خبير اقتصادي يجيب

ما حقيقة “إفلاس لبنان”؟.. خبير اقتصادي يجيب

لم تعد الأزمة في لبنان أزمة اقتصادية عادية، ولكنّها أزمة مركّبة، صنّفها البنك الدولي بين الأزمات الـ3 الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن الـ19، غير أنّ إعلان “إفلاس” الدولة اللبنانية، رغم نفيه، كان له وقع الصدمة في نفوس اللبنانيين الذين ربما لم يعرفوا سوى الأزمات الاقتصادية خلال العقود القليلة الماضية.

وانتشرت، أول من أمس، تصريحات صادمة لنائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعادة الشامي عن “إفلاس” الدولة اللبنانية ومصرف لبنان المركزي. وبعدما أثارت تصريحاته ضجة كبيرة في الأوساط اللبنانية المختلفة، ولا سيّما مجتمع الأعمال، نفى الشامي دقة التصريحات قائلاً: “كلامي اجتُزئ”، مشيراً إلى أنّ الفيديو الذي انتشر هو جزء من حديث في معرض ردّ على سؤال حول مساهمة الدولة ومصرف لبنان في معالجة الخسائر في القطاع المصرفي، “حيث كان جوابي أنّ الدولة غير قادرة على المساهمة بشكل كبير في ردم الهوّة، بما معناه ما من سيولة.”

في الوقت نفسه، قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في بيان: إنّ “ما يتم تداوله حول إفلاس المصرف المركزي غير صحيح”، مضيفاً: “بالرغم من الخسائر التي أصابت القطاع المالي في لبنان، والتي هي قيد المعالجة في خطة التعافي التي يتم إعدادها حالياً من قبل الحكومة اللبنانية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، ما زال مصرف لبنان يمارس دوره الموكل إليه بموجب المادة (70) من قانون النقد والتسليف، وسوف يستمر بذلك”.

الأزمة الاقتصادية في لبنان عمرها يتعدى العامين، ففي 2020 كان لبنان يكافح لإنهاء أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990، قبل أن يقع حادث انفجار مرفأ بيروت في آب (أغسطس) 2020 ليفاقم الأزمة، ويضع الاقتصاد اللبناني على شفا الانهيار.

ومع استمرار تدهور الاقتصاد اللبناني دون حلول وإصلاحات جذرية ووصول معدلات التضخم إلى أكثر من 100% وانهيار العملة المحلية “الليرة” أمام الدولار، أصبح الاقتصاد اللبناني في حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لإصلاحات جدّية، وتضافر جميع الجهود على كافة الأصعدة لتفادي الانهيار.

وقبيل انفجار مرفأ بيروت بشهر تقريباً أفادت وكالة “بلومبرغ” الأمريكية أنّ الأزمة الاقتصادية في لبنان تخرج بسرعة عن السيطرة، مدفوعة بانهيار العملة الذي يقضي على الشركات، ويدفع العائلات إلى الفقر المدقع، مشيرة إلى أنّ وتيرة الانهيار تسارعت منذ اندلاع الاحتجاجات في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 ضد عقود من الفساد وسوء الإدارة من قبل النخب السياسية التي دمرت خزائن الدولة. وفي آذار (مارس) 2020 تخلف لبنان عن سداد ديونه الخارجية لأول مرة.

ما أشبه اليوم بالبارحة! فتصريحات الشامي عن الخسائر تعيد إلى الأذهان تعثر مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي في 2020، بعدما تشاجر السياسيون والمصرفيون حول حجم الخسائر ومن يجب أن يدفع، الخلافات التي دفعت اثنين من مفاوضي وزارة المالية حينها للاستقالة، وسط دعوات صندوق النقد الدولي للبنانيين للتوافق والعمل في أسرع وقت ممكن لتفادي مزيد من التأزم.

توزيع الخسائر

وحول تصريحات الشامي، قال باتريك مارديني، الرئيس التنفيذي للمعهد اللبناني لدراسات السوق، في تصريحات خاصة لـ”حفريات”: إنّ “نائب رئيس الوزراء اللبناني كان يتحدث في سياق توزيع الخسائر”، موضحاً أنّ هذه الخسائر هي أموال المودعين، وبالتحديد الإيداعات الدولارية التي استخدمتها البنوك في تمويل عجز الموازنة اللبنانية، وقد عجزت البنوك والحكومة والبنك المركزي في ردها للمودعين مجدداً مع خدمة الدين.”

وأوضح مارديني أنّ الحكومة اللبنانية تخلفت عن سداد ديون “اليوروبوندز” (سندات اليورو) ما يعني أنّها “غير قادرة” على تحمل الجزء الأكبر من هذه الخسائر، لا سيّما بعد إضافة الديون المتوجبة على المصرف المركزي تجاه المصارف.

وأكد مارديني أنّ “لبنان بالفعل في وضع التخلف عن السداد منذ آذار (مارس) 2022 ، لكن ما صدم المتابعين هو استخدام تعبير الإفلاس”، لافتاً إلى أنّ “لبنان يمر بأزمة اقتصادية حادة، ربما تكون هي الأصعب منذ (150) عاماً، وأنا هنا استشهد بحديث البنك الدولي.”

وضع الاقتصاد اللبناني

هبط الناتج المحلي الإجمالي اللبناني إلى (18) مليار دولار من مستوى (55) مليار دولار في 2018 على حدّ قول مارديني، الذي صرّح بأنّ الناتج المحلي الإجمالي للبنان “خسر نحو 60% منذ 2018 حتى الآن”، في انهيار هو الأعنف منذ أعوام.

اقرأ أيضاً: هل يعرقل سلاح حزب الله التقارب الخليجي اللبناني مجدداً؟

ووفقاً لمارديني، فإنّ العملة اللبنانية “الليرة” خسرت 95% من قيمتها؛ ممّا أدى إلى انخفاض حاد في قيمتها، فأضعف القدرة الشرائية للرواتب وسرّع التضخم.

تضخم جامح

قال مارديني: إنّ “لبنان يعاني من تضخم جامح هائل جعل الناس فقراء للغاية، بالإضافة إلى الركود الاقتصادي الذي دفع الشركات والأعمال الخاصة إلى التوقف والإغلاق، وتسريح الموظفين، إضافة إلى ذلك عجزت الحكومة عن سداد سندات اليورو والعجز السنوي”.

وفي تموز (يوليو) الماضي نشرت وزارة التضامن اللبنانية، على موقعها الرسمي على الإنترنت، دراسة للأمم المتحدة حول الفقر في لبنان تحت عنوان “الحاجات ذات الأولوية”: أنّ عدد اللبنانيين تحت خط الفقر بلغ (1,5) مليون، وعدد اللبنانيين فوق خط الفقر (2,5) مليون نسمة، إضافة إلى (178,200) لاجئ فلسطيني تحت خط الفقر، و(91,800) لاجئ فلسطيني فوق خط الفقر، في حين يبلغ عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى الأمم المتحدة بصفتهم لاجئين تحت خط الفقر (720) ألفاً، واللاجئين السوريين المسجلين فوق خط الفقر (780) ألفاً.

بيد أنّ هذه الأرقام قد تكون اختلفت كثيراً مع اشتداد الأزمة اللبنانية متأثرة بالأزمة مع دول الخليج التي دأبت على دفع هبات من حين إلى آخر، فقد انعكست الأوضاع السياسية بالبلاد على الاقتصاد، وأدّت إلى إحجام الاستثمارات الداخلية والخارجية وإقفال عدد من المؤسسات؛ ممّا حال دون خلق فرص عمل للمواطنين وتزايد معدلات البطالة.

جذور الأزمة

عزا الرئيس التنفيذي للمعهد اللبناني لدراسات السوق، في تصريحات لـ”حفريات”، أسباب الأزمة إلى “أعوام من الإدارة السيئة للاقتصاد الوطني، وأزمة عجز الموازنة وتراكم الديون، فقد كانت الحكومة اللبنانية تدير عجز موازنة على مدار (30) عاماً على الأرجح.”

اقرأ أيضاً: ما هي رسائل حزب الله في كشف شبكات تجسس إسرائيلية في لبنان؟

وأشار إلى أنّ لبنان كان يعتمد على “تحويلات اللبنانيين في الشتات، الذين يودعون أموالهم في بنوك لبنانية، إلى جانب المودعين من داخل البلاد، لذلك تم تمويل الإنفاق الحكومي لأعوام من خلال هذه الودائع، حيث لعبت البنوك دور الوسيط بأخذ أموال المودعين وإقراضها للحكومة.”

وأوضح مارديني أنّه منذ 2015 “لم تعد البنوك ترغب في إقراض الحكومة بعد الشعور بعجز الحكومة اللبنانية عن سداد تلك الديون وخدمة الدين، لذلك عمد البنك المركزي اللبناني على إطالة أمد اللعبة، وبدأ القيام بعمليات الهندسة المالية من أجل تحفيز المغتربين اللبنانيين على إرسال المزيد من الأموال إلى لبنان من خلال عرض أسعار فائدة أعلى لهم حتى يتمكن من إقراض الأموال للحكومة لسد عجز الموازنة وتثبيت سعر الصرف؛ ممّا أدى إلى خسارة هائلة في العملة الأجنبية.”

قارب صندوق النقد

أحرقت الحكومة اللبنانية مراراً قوارب النجاة التي عرضها المجتمع الدولي بالتباطؤ وتأخير الإصلاحات المطلوبة، فقد قال مارديني: إنّ الحكومة كانت قد تعهدت بتنفيذ عدة برامج لمعالجة الأزمة اللبنانية قبل تفاقمها مؤخراً، إلّا أنّ لبنان أبدى ضعفاً كبيراً أمام تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.

وأشار الخبير الاقتصادي اللبناني إلى أنّ أصوات داخلية وخارجية، ومن بينها المجتمع الدولي والبنك الدولي والصندوق الدولي، طالبوا بإصلاحات اقتصادية في لبنان، وكانت الحكومة اللبنانية تتعهد بتنفيذ الإصلاحات، لكنّها لم تحرك ساكناً، ولم تُنفذ تعهداتها.

اقرأ أيضاً: هل أخطأ الحريري في قرار مقاطعة الانتخابات اللبنانية؟

ورأى مارديني أنّ برنامج صندوق النقد الدولي “مهم” للبنان، ومن شأنه أن يعطي “إشارات إيجابية”، واستطرد قائلاً: “لو كان لدينا مسارات بديلة، لأصبحنا قادرين على تنفيذ تلك الإصلاحات”. وأعرب عن اعتقاده بأنّ برنامج الصندوق “أصبح أمراً لا بدّ منه”، حيث يربط “أصدقاء لبنان” المساعدات بـ”إصلاحات حقيقية”.

الحلول الداخلية

شدد مارديني على ضرورة أن تعالج الحكومة اللبنانية الأزمة الحالية من خلال تأسيس “مجلس نقد” على غرار هونج كونج، معتبراً أنّ ذلك “هو الحل الوحيد المتبقي للبنان لضمان استقرار أسعار الصرف، والحفاظ على ما تبقى من احتياطي النقد الأجنبي.”

وأوضح أنّ “مجلس النقد” قد يسهم في إعادة تنشيط الاقتصاد واستقرار سوق النقد الأجنبي وجذب رؤوس الأموال إلى لبنان، الذي يملك العديد من الأصول الثابتة.

وإلى جانب برنامج صندوق النقد، أعرب مارديني عن اعتقاده بأنّ الحكومة اللبنانية لا بدّ أن تنهي احتكار أسواق معينة، مثل سوق الطاقة، من خلال فتح سوق الكهرباء للاستثمار الخاص والمنافسة وفق ضوابط محددة.

ورغم خفض قيمة العملة المحلية، لم يشهد لبنان ضخ استثمارات جديدة أو تدفق النقد الأجنبي، على عكس ما يحدث في تلك الحالات، الأمر الذي فسّره مارديني بمخاوف المستثمرين من تقلبات السياسات النقدية العالية، إلى جانب أنّ الأزمة الحالية أزمة مركّبة تشمل خفض قيمة العملة المحلية، وعجز الميزانية، وتقلب السياسات النقدية، وتخلف الدولة عن سداد الديون، وغيرها من الأزمات التي قد يكون جزء كبير منها سياسياً.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع حفريات