بيروت: «الوضع لم يعد يحتمل»، عبارة يُجمع عليها اللبنانيون بعد أن ضاقت بهم الأحوال جراء الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي بدأت تضرب بلدهم منذ قرابة العامين، فقلبت حياتهم رأسا على عقب، وأفقرتهم وباتوا بلا كهرباء، ولا أدوية، ولا محروقات، ولا خبز و«الحبل على الجرار».
باختصار يمكن القول إن أبسط المقومات الأساسية للحياة أصبحت مفقودة أو «مخزنة»لدى المحتكرين والمهربين في وطن كان يوما من الأيام يلقب بـ«باريس الشرق»، لكن باريس هذه أصبحت مدينة أشباح، وأرضا قاحلة لم يبق منها شيء سوى وجوه يائسة تنتظر «الفرج»في طوابير «الذل»أمام محطات المحروقات وأمام الأفران والصيدليات، أو على أبواب السفارات هربا من هذا الجحيم.
رفع الدعم عن المحروقات
أما اليوم، فلبنان على موعد مع مرحلة اقتصادية جديدة في ظل التضخّم الكبير الذي سيعكسه قرار المصرف المركزي بوقف الدعم عن المحروقات، وما رافقه من ارتفاع مؤشّر الأسعار بشكل جنوني.
فبعد أشهر من إضاعة الوقت والاستمرار في استنزاف أموال المودعين في المصارف، بدعمٍ عشوائي يتم هدره إمّا بالتهريب أو التخزين، أعلن مصرف لبنان الأربعاء الفائت رفع الدعم كليا عن المحروقات، مشيرا في بيان إلى أنه «سيتم تأمين الاعتمادات اللازمة المتعلقة بالمحروقات اعتباراً من تاريخ 12/8/2021، وفق سعر صرف السوق، وسيعتمد مصرف لبنان الآلية السابقة لفتح الاعتمادات، ولكن باحتساب سعر الدولار على الليرة اللبنانية تبعاً لأسعار السوق، (بعد أن كانت على أساس تسعيرة 3900 ليرة) على أن يعود لوزارة الطاقة تحديد الأسعار الجديدة للمحروقات».
قرار منقوص
القرار الذي كان يجب اتّخاذه منذ أشهر جاء منقوصاً للأسف، بعدما أغلقت السلطات اللبنانية آذانها عن تحذيرات المركزي مرارا بعدم قدرته على تأمين الدولار للاستيراد وضرورة إيجاد سياسة بديلة تعيل المواطنين، وبالتالي اتُخذ القرار من دون إقرار بطاقة تموينية تؤمّن صمود الشعب اللبناني في ظل رفع الدعم، مما سيكون له تداعيات كارثية على المجتمع اللبناني ومجمل القطاعات الحياتية، وسيؤدي حكماً إلى ارتفاع جنوني في أسعار السلع والمواد الغذائية، وتكلفة النقل، وفاتورة المولّد الكهربائي، وغيرها.
فبحسب دراسة أصدرتها «الدولية للمعلومات»، سيقفز سعر صفيحة البنزين من 77 ألف ليرة لبنانية إلى 336 ألف ليرة، كذلك مادة المازوت التي سيصبح سعر صفيحتها 278 ألف ليرة، بعدما كانت نحو57 ألفاً، بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار الذي يبلغ اليوم 20500 ليرة لبنانية للدولار الواحد.
وتوضح هذه الأرقام، إذا ما جرى مقارنتها مع الحد الأدنى للأجور، البالغ 675 ألف ليرة (أقل من 35 دولار)، حجم الكارثة، إذ بات هذا الراتب يوازي سعر صفيحتي بنزين لا أكثر، والحال ليست أفضل بالنسبة للموظفين في القطاع العام، حيث يتراوح متوسط الأجور بين مليون ونصف ومليونين ونصف المليون ليرة، حسب الفئات، والواقع نفسه ينطبق على القطاع الخاص ورواتبه المصروفة بالليرة.
علاج كيميائي لا بديل عنه
ولكن من جهة ثانية، على الرغم من تداعيات قرار رفع الدعم السلبية على المواطنين، إلا أنه قرار صحيح وكان يجب اتخاذه قبل أشهر حفاظا على ما تبقى من أموال المودعين، وبحسب رأي الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، فإن «التأثيرات الإيجابية تفوق بأشواط التأثيرات السلبية». إذ توقع مارديني في حديث لـ«المجلة»، أن رفع الدعم عن المحروقات سيكون له شق سلبي متمثل بارتفاع أسعار الوقود وأسعار السلع والخدمات، وشق إيجابي وهو «انتهاء أزمة المحروقات، ما يعني توفر مادة المازوت وعودة التيار الكهربائي، إضافة إلى انتهاء ظاهرة طوابير الذل أمام محطات البنزين، وعودة العجلة الاقتصادية للعمل نتيجة لعودة الإنتاج بعد توقفها القسري بسبب أزمة المحروقات».
وأضاف أن «القطاع الاستشفائي والخدمي في البلاد سيعود للعمل»، مشيراً إلى أن «الناس كانت تشتري السلعة بسعر مرتفع من السوق السوداء بطبيعة الحال، لأنها كانت غير متوفرة، أما اليوم فستكون في متناول من يستطيع تحمل كلفتها».
وأشار إلى أن «وقف الدعم يعيد الحياة إلى طبيعتها من حيث إعادة تأمين السلع التي كانت مدعومة في السوق، نظرا لكون هذه السلع تذهب هدرا للمهربين والمحتكرين الذي يخزنون هذه السلع لإعادة بيعها بالسوق السوداء لمضاعفة أرباحهم، لافتا إلى أن «المواطن لم يستفد من الدعم لأنه كان يذهب لجيوب هؤلاء».
كذلك أكد مارديني أن «وقف الدعم سيوقف عمليات التهريب، وبالتالي سيخف استيراد لبنان للمحروقات».
وقال مارديني: «صحيح أن أسعار الوقود والسلع سترتفع، إلا أنه في الواقع الارتفاع ليس بأسعار المحروقات إنما الليرة اللبنانية هي التي تفقد من قيمتها أمام الدولار».
وهنا أكد على أن «الحل لأزمة القدرة الشرائية للمواطن ليس في الإبقاء على الدعم، إنما حل المشكلة النقدية عبر وقف انهيار الليرة وذلك عن طريق إنشاء مجلس نقد الـ(Currency board)».
إلى ذلك، استبعد أن يكون لقرار رفع الدعم تأثير مباشر على قرار سعر صرف الدولار، مشيرا إلى أنه «سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع التي كانت مدعومة، إلا أنه لن يؤثر على سعر الصرف، إنما الجدل السياسي حول القرار وغيره هو الذي قد ينعكس على انهيار إضافي في الليرة».
وأوضح مارديني أن الدعم يخفّض احتياطي المركزي بالعملة الأجنبية، وبالتالي يخفّض عمليا تغطية الليرة وهذا الأمر هو وراء انهيار العملة، وعندما يتوقف هذا الأمر نحافظ بذلك على ما تبقى من الثقة بقيمة العملة الوطنية، وتابع: «لكن هذا لا يعني أننا لن نشهد انهيارا إضافيا في قيمة الليرة وارتفاعا للدولار، ولكن سيكون لأسباب أخرى».
كما وصف مارديني خطوة رفع الدعم في العلاج الكيميائي، بأنه مؤلم وموجع لكنه الحل الوحيد ليعود البلد إلى الإنتاج وسوف يسمح لإعادة بناء الاقتصاد اللبناني على أسس سليمة».
أما عن كيفية تحمل المواطن كلفة فاتورة الكهرباء والمواصلات بعد رفع الدعم، فقال إن المشكلة الأساسية تكمن في الإدارة الخاطئة لقطاع الكهرباء من قبل الدولة، وكذلك بالنسبة لقطاع النقل المشترك الذي يواجه أزمة كبيرة أيضاً».
تخبط وإرجاء لـ«انفجار» أزمة رفع الدعم
القرار الذي اتخذه حاكم مصرف لبنان، عقب اجتماع مجلس الدفاع الأعلى، الأربعاء الفائت في بعبدا، أثار جدلاً سياسياً وتراشق بيانات بين رئاستي الجمهورية والحكومة من جهة، والمصرف من جهة أخرى، إذ اعتبر كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال، أن قرار حاكم المصرف رياض سلامة اتخذ بشكل أحادي وفجائي دون العودة إلى الحكومة، وبما يخالف قرار الحكومة بالرفع التدريجي للدعم المترافق مع إصدار البطاقة التموينية التي تؤمن دعماً مباشراً للمواطنين في حاجاتهم الرئيسية.
وفي المقابل رد حاكم مصرف لبنان على تلك الاتهامات بأن احتياطات المصرف من العملات الصعبة وصلت إلى حد المس بالاحتياطي الإلزامي (15 مليار دولار من أموال المودعين في المصارف اللبنانية) في حين لا يؤدي الدعم الغرض منه بتخفيف الأعباء عن المواطنين وتوفير المحروقات في السوق، إذ لا تزال المواد منقطعة وعرضة للاحتكار والتهريب والتخزين، لاسيما الأدوية ومادتي المازوت والبنزين، مؤكدا على أن «جميع المعنيين كانوا يعلمون بالقرار، أي الحكومة ورئاسة الجمهورية ومجلس النواب، وبالتالي القرار ليس كما يصوّر له».
لكن إعلان مصرف لبنان وإصراره على رفع الدعم عن المحروقات- وما تبعه من صراع سياسي بين السلطتين الرئاسية والتنفيذية والقوى الدائرة حولهما- شكّل منعطفا خطيرا للأزمة؛ وقد تجلت بوادره بالشارع في ظل الاحتجاجات المتنقلة وقطع الطرقات، اعتراضا على الأسعار الخيالية القادمة وانقطاع مادتي البنزين والمازوت الأمر الذي سيؤثر على كافة القطاعات دون استثناء.
رئيس جمهورية فشل في إدارة السلطة
وفيما بقي قرار رفع الدعم عالقا، قال الدكتور مصطفى علوش، عضو المكتب السياسي لتيار المستقبل، لـ«المجلة»إن«هناك سلطة فاشلة وغير مسؤولة وهي تعلم جيدا ما يجب أن تفعله ولكنها تمتنع عن ذلك».
وعن اتخاذ القرار دون وجود سياسة بديلة، رأى علوش أنه «في الحالتين الناس تُركت لمصيرها، فالدعم يصرف من جيوب المواطنين، فإذا استمر الدعم دون بدائل ودون خيارات سياسية وحكومة جديدة الاحتياطي الإلزامي (أي ما تبقى من أموال المودعين) سوف يتبخر مع مرور الوقت، وعندها تقع الكارثة الكبرى».
وأشار علوش إلى أن «المركزي لا يحق له المساس بالاحتياطي الإلزامي، وعلى السلطة اتخاذ القرارات المناسبة من خلال تشكيل حكومة اختصاصيين والذهاب نحو التفاهم مع صندوق النقد الدولي».
إلى ذلك، شدّد علوش على أن «المشكلة الأساسية هي لدى رئيس الجمهورية الذي لا يزال متمسكا بالسلطة رغم فشله في إدارتها»، مؤكدا أن «المشكلة ليست برفع الدعم إنما بالسلطة الفاشلة».
وختم بالتأكيد على أن «الفوضى قائمة، لأن السلطة لا تقوم بواجباتها لجهة اتخاذ القرار لناحية رفع الدعم أو إبقائه».
وبالنهاية، فإن الأصعب لم يظهر بعد، في ظل إعلان المصرف المركزي رفع الدعم، وخشية الحكومة من تحديد أسعار جديدة للمحروقات خوفا من تداعيات القرار الذي يعني رفع أسعارها نحو 5 أضعاف، إذ تتمسك وزارة الطاقة بعدم تسعير المحروقات وفق سعر صرف دولار السوق السوداء، مستندة إلى قرار استمرار الدعم الصادر منذ أيام عن رئيس حكومة تصريف الأعمال، وبين مصرف لبنان ووزارة الطاقة لا قرار موحداً حتى اللحظة، ولذلك فإن «انفجار»الأزمة الجديدة مؤجل، فقرار مصرف لبنان النهائي برفع الدعم عن المحروقات، لم يتغير حتى اللحظة. لكنه وفق المعلومات أُوعز الثلاثاء المنصرم للشركات المستوردة للمحروقات بإدخال الشحنات المستوردة مؤخراً والبالغ حجمها 80 مليون لتر من المازوت والبنزين، وفق سعر صرف 3900 ليرة للدولار، أي بسعر الدعم. أما عن تمرير مصرف لبنان شحنة جديدة من مستوردات المازوت مدعومة السعر، فهدفه «تفادي»انفجار شعبي قد لا يسلم منه أحد، والتخوّف من فوضى في سوق المحروقات تفوق ما نشهده اليوم.
وميدانيا، اتسعت رقعة الإشكالات عند محطات الوقود التي تزحف نحوها أرتال السيارات والدراجات النارية وحاملو الغالونات، ما استدعى نزول الجيش والقوى الأمنية على الأرض ضبطا للكميات المخزنة وتعزيزا للأمن.
وانعكس شح المحروقات على مفاصل حياة المواطنين، وهم يعيشون تقنينًا قاسيًا بالكهرباء، وتطفئ معظم المولدات الكهربائية الخاصة لساعات طويلة، رغم أن فاتورتها الشهرية تتجاوز الحدّ الأدنى للأجور البالغ نحو 675 ألف ليرة (نحو 32 دولارا).
الجدير ذكره أن مصرف لبنان، وبقرار من الحكومة، كان يُؤَمِّن 85 في المائة من الدولار لاستيراد المواد الأساسية من محروقات وطحين وأدوية، وفق سعر الصرف الرسمي للدولار (1507 ليرات)، فيما سعر صرف الدولار الفعلي بالسوق السوداء، تجاوز أخيرًا عتبة الـ20 ألف ليرة.
لكن قبل نحو شهرين، اتخذت الحكومة قرارًا بتخفيض دعم المحروقات، وتضاعفت حينها أسعار المحروقات، وصار سعر صفيحة البنزين نحو 77 ألف ليرة، وصفيحة المازوت نحو 57 ألفا.
ومع ذلك، استمر شح المحروقات، وصارت مادتا البنزين والمازوت شبه نادرتين، واستمرت عمليات التهريب إلى سوريا، كما تباع المحروقات داخليا بالسوق السوداء بطريقة غير شرعية، وبواسطة غالونات، بأكثر من 3 أضعاف سعرها الرسمي.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع المجلة