إلى معارضي مجلس النقد: كفاكم تغطية للعابثين بلقمة عيش المواطن

إلى معارضي مجلس النقد: كفاكم تغطية للعابثين بلقمة عيش المواطن

يرزح المواطن اللبناني تحت وطأة انهيار سعر الصرف وتحليق الأسعار واختفاء القدرة الشرائية. فمع بدء الأزمة، كان المواطن يحلم بعودة سعر صرف الـ 1515 ثم الـ 3000، وقد بات الآن يتمنى أن يقف تدهور الليرة على عتبة الـ 12000. وفي خضم هذه الأزمة، برز طرح قديم وفعال طوّره البروفسور العالمي ستيف هانكي، يخفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة وينهي مشكلة التضخم المفرط في لبنان خلال 30 يوماً. وباختصار، يرتكز جوهر هذا الطرح على سياسة نقدية تكون فيها الليرة اللبنانية مغطّاةً بالكامل بعملة الاحتياط، الدولار مثلا، وبالتالي تصبح هذه الليرة ثابتة وعصية على الأزمات. ويتوقع المرء أن يلقى حلٌّ بسيط عملي مضمون مثل هذا إجماعاً على تبنّيه لدى الخبراء، غير أن أصوات المعارضة ليست قليلة، وهي تنشط في شيطنة الموضوع إما عن قلّة إلمام، وإمّا غيرةً ممّن سبقوهم بالفكرة، وإمّا لحاجة في نفس يعقوب.

ويبدأ سلَّم الانتقادات المغلوطة من الزعم بأن مجلس النقد آتٍ من وراء البحار، وأنه طرحٌ أجنبي غريب عن لبنان. أمّا الحقيقة، فبعيدة كل البعد عن هذه المزاعم. فقد كان لبنان يتبع سياسة التغطية الذهبية للعملة حتى وصلت نسبتها إلى 90% في العام 1954. وبالفعل، كنا نتفاخر في السابق ونحِنّ في الحاضر إلى زمن الليرة القوية التي تتمتع بالغطاء الصلب. ويشابه طرح مجلس النقد نظام معيار الذهب، لكنه يتجاوز التعقيدات التقنية لبيع الذهب وشرائه وتسييله عبر استبداله بعملة احتياط موثوق بها عالميا مثل الدولار أو اليورو. من هنا يُعتبر مجلس النقد عودةً إلى نظام سليم شبيه بما كان يتمتع به لبنان في أيام العز.

ويبرز جليا عدم اطلاع منتقدي مجلس النقد على تجاربه وكيفية عمله عندما يزعمون أنه لا يمكن لبلد يمر بأزمة مصرفية أن ينشئ مجلس نقد. فقد أنشأت بلغاريا وهونغ كونغ مجالس نقدها لأنها كانت تمر بأزمة مصرفية قاسية شبيهة بتلك التي يمر بها لبنان. وقد ساعد مجلس النقد هذه البلدان على الخروج السريع من ازماتها المصرفية وإعادة بناء قطاعها المصرفي على أساس متين. ويقع منتقدو مجلس النقد في خطأ تقني آخر، فيزعمون تارةً بأنه يحدّ من حجم الكتلة النقدية ما يستنفد الاحتياط، وطوراً بأنه يؤدي إلى زيادتها ما يستنفد الاحتياط أيضا! اما في الحقيقة، فقد أظهرت جميع التجارب من دون استثناء ارتفاعاً كبيراً في الاحتياط لدى انشاء مجالس النقد، وأنصح المنتقدين بمراجعة التجارب العالمية تفادياً لتكرار الوقوع في المغالطات. اما للمودعين الذين وقعوا ضحية الشائعات الفارغة فأقول، مجلس النقد هو آخر أمل لإعادة تكوين ودائعكم.

ويسأل البعض عن مصير الإنفاق الحكومي في حال توقف طباعة النقد، متجاهلاً سبب المصيبة الذي هو طباعة النقد بحد ذاتها؛ بينما يتساءل آخرون عن مصير أجور موظفي القطاع العام في حال توقف طباعة النقد، متجاهلين أن الموظفين هم الأكثر تضرراً من طباعة النقد لأنها تؤدي إلى انهيار سعر الصرف وتسلبهم قدرتهم الشرائية. كما يأخذ بعض المعترضين على مجلس النقد عيوباً بنيوية وتطبيقية من دون تحديدها أو مناقشتها، مثبتين عدم وجودها.

ومن الأخطاء الشائعة أيضا استخدام مَثل الأرجنتين للدلالة على فشل مجلس النقد. ومن جديد، أدعو المنتقدين لمراجعة تجربة الأرجنتين قبل تكرار مزاعم خاطئة. فقد نجح النظام الذي اعتمدته الأرجنتين في تثبيت سعر الصرف لحوالى 11 عاما بين العامين 1991 و2002، ولم ينهر سعر الصرف إلا عندما تخلت الأرجنتين عن هذا النظام. وبالفعل، كان نظام الأرجنتين مشابهاً لمجلس النقد من حيث إصدار عملة محلية مغطاة بعملة الاحتياط، ولكنه لم يكن فعلا مجلس نقد لأن المصرف المركزي بقي متمتّعاً بحقّ إقراض الحكومة هذا الاحتياط، وهو ما حصل بالفعل. وقد حذّر البروفسور هانكي من انهيار نظام الأرجنتين منذ إنشائه وتوقع أن تستدين الحكومة هذا الاحتياط وتصرفه فتخسر الأرجنتين التغطية، وقد كان. فهل نستمر في حرمان لبنان من نجاحات هونغ كونغ بحجج واهية؟

ويقترح البعض، بدلاً من مجلس النقد، منع المصرف المركزي من إقراض الحكومة. ويدل هذا الطرح على جهل عميق بطريقة عمل المصرف المركزي وآلية تدخله في السوق المفتوحة (Open Market). فحتى لو منعنا مصرف لبنان من إقراض الدولة مباشرة، فسيعمد إلى إقراضها بطريقة غير مباشرة عبر شراء سندات الخزينة من المصارف، فنعود بذلك الى تكرار المشكلة التي اوصلتنا الى الازمة الحالية. اما إذا كان الطرح يهدف إلى منع المصرف المركزي من شراء سندات الخزينة أيضا، فكيف سيتمكن من إصدار الليرة؟ ويحل مجلس النقد هذه المعضلة، إذ يصدر الليرة عن طريق شراء عملة الاحتياط ويصيب بذلك عصفورين بحجر واحد لأنه يمنع السلطة من مد يدها إلى الودائع من جهة ويؤمن الغطاء الكامل لليرة، ما يوقف ارتفاع الدولار على الفور ويخفف الأزمة المعيشية.

ويعاني لبنان اليوم من مشكلتين أساسيتين هما انهيار سعر الصرف والتضخم والفقر الناتجان عنه من جهة، وانهيار القطاع المصرفي بسبب عجز القطاع العام (الحكومة ومصرف لبنان) عن سداد ديونه من جهة أخرى. ويصر المنتقدون على اشتراط معالجة مشكلة المصارف قبل مشكلة المواطن، وكأنهم يريدون أخذ المواطن رهينة المصارف. اما مجلس النقد فيعالج مشكلة انهيار سعر الصرف والتضخم المفرط ويخفف الأزمة المعيشية، كما يؤسس لنهضة القطاع المصرفي الذي انهار نتيجة السياسات النقدية السيئة.

ما زال البعض في لبنان يعتقد أن التضخم يخلق نمواً، وكأنه لا يعيش في لبنان ولا يرى تزامن التضخم مع ركود (نمو سلبي) رهيب. ويتمسك هؤلاء بفكرة خلق النقود من العدم والاستمرار في ضخ العملة المحلية، ظناً منهم أن قيمة المال هي بالورقة. ولو كان هؤلاء مستيقظين أثناء درس التاريخ في المرحلة الثانوية لعرفوا نتيجة ما حل بلبنان أثناء الحرب العالمية الأولى حين استبدلت السلطنة العثمانية ليرة الذهب بالعملة الورقية (البنك نوت) المطبوعة بهدف تغطية تكاليف الحرب. فإلى أي مستوى يصل سعر صرف الدولار والفقر الذي يرافقه ليقتنع المنظرون بضرورة حل أزمة الليرة قبل كل اعتبار؟

إضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار