في غمرة التفاؤل بتشكيل حكومة جديدة قادرة على وقف عجلة الانهيار وتثبيت استقرار سياسي واقتصادي يعيد إطلاق الدورة الاقتصادية ورفع النمو، هبط سعر صرف الدولار الاميركي على نحو لافت من آخر سقف وصل اليه. ولا يزال الهبوط متوقعا الى مستويات أدنى في حال نجح الرئيس سعد الحريري في التأليف بعد التكليف، على قاعدة ان النقد والاقتصاد والسياسة والاستقرار الأمني هي الرباعية الذهبية لاستقرار سعر العملة الوطنية.
ولكن في مقلب المصالح والمضاربة على المصلحة الوطنية العليا، لا تزال شبكة المتلاعبين بأسعار العملة والمضاربون على الليرة ينشطون في العلن عبر سلسلة صيارفة غير قانونيين وباعة عملة محميين في الزواريب والشقق المغلقة، كما ينشطون في الخفاء عبر شبكة تطبيقات الكترونية وحسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي أو أرقام هواتف تتبدل من يوم الى آخر. هذه الشبكات تتلطى بمجملها خلف عجز الدولة وتمنعها من تطبيق القانون، فيما يتلقى بعضها الحماية من بعض السلطة. لذا بات استقرار سعر صرف العملة الوطنية مرهوناً بالحاجة الكبرى الى جهة رسمية تطبِّق القانون، وتنقضّ بحزمٍ حديديّ على هذا الاخطبوط الذي يستغل النكبة الاقتصادية لجني الارباح غير المنطقية، ويساعد على انهيار ما تبقّى من قيمة الليرة والاقتصاد.
فقد ظهرت في الفترة الاخيرة تطبيقات هاتفية الكترونية متخصصة في الاعلان عن سعر صرف الدولار الاميركي مقابل الليرة اللبنانية، وحتى الآن لم يُعرف مَن يقف خلفها، ما حدا بنقيب الصيارفة محمود مراد الى اعتبارهم “أشباحاً”، ينشرون أسعار صرف من دون ان يبرزوا مصدر معلوماتهم التي لا تمتُّ الى الواقع بصلة.
فأداء تلك التطبيقات المشتبه فيها، له بالغ الأثر السلبي على الإقتصاد، وعلى قيمة العملة الوطنية، نتيجة نشر معلومات لا غاية منها سوى بثّ الذعر وتالياً خلق طلب مفتعل على الدولار الأميركي ضمن سياسة القضاء على أي محاولة لكبح انهيار سعر الصرف، خصوصا أن ثمة فروقات كبيرة بين الأسعار المتداولة في سوق القطع من جهة، وتلك المعلَن عنها في تلك التطبيقات من جهة أخرى، إضافة إلى نشاط في تعديل بياناتها حتى في أيام العطل الرسمية وخلال تجميد مكاتب الصيرفة الشرعية لنشاطها.
وفي هذه الفترة تحديداً حيث أجواء التفاؤل بتشكيل حكومة تسيطر على الاسواق، بما انعكس في شكل واضح على سعر صرف الدولار، و”إنْ كان الامر لا يعدو كونه نفسياً”، وفق ما يقول مراد لـ”النهار”، إلا أن ثمة تخوفاً من أن يدخل مَن يقف خلف هذه التطبيقات على الخط لرفع سعر الدولار خصوصا اذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك.
وإذ لم يستبعد أن تكون وراء هذه التطبيقات مجموعة من التجار أو السياسيين لديهم مصلحة في رفع سعر صرف الدولار في ظرف معيَّن، يؤكد مراد: “حتى الآن لم تتوصل الجهات الامنية أو القضائية الى الكشف عن هويتهم أو الجهات التي تدعمهم، كما أننا لا نعرف كيف يصار الى انشاء هذه التطبيقات وعلى اي أساس يحددون سعر الصرف، ولا نعرف مصدرها إن كانت من داخل لبنان أو من خارجه. ومع ذلك نقوم بواجباتنا بالتبليغ عنها، ونترك مهمة المتابعة والكشف عنهم أو توقيفهم للجهات الامنية والقضائية التي أبلغناها ان هذه التطبيقات تؤثر على السوق، اذ يعتمد من يريد بيع الدولار على سعر هذه التطبيقات لا على سعر الصرافين”.
ولا يقتصر دور هؤلاء “الاشباح” على تفعيل هذه التطبيقات التي يعمل بعضها من خارج لبنان، وتاليا من الصعب ملاحقتها وضبطها من القوى الامنية، بل يقومون بشراء الدولار بسعر مخفوض لإعادة بيعه بأسعار أعلى، كما يلجأون الى وسائل التحكم بالسوق السوداء.
وإذ ينفي ان يكون للصيارفة الشرعيين أي دور في السوق السوداء، يشير مراد في المقابل الى أن “غالبية اللبنانيين أصبحوا ناشطين في هذه السوق (محطات البنزين، والمحال التجارية، وغيرها) ويتبعون اسعار الصرف التي تحددها التطبيقات الالكترونية”.
لِمَ لا تُحجب هذه التطبيقات؟
منذ فترة أصدر المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، قراراً يقضي بحجب التطبيقات الهاتفية لصرف صرف الدولار الاميركي وإيقافها، والتي بلغ عددها أكثر من 15 تطبيقاً.
وفق الآلية المتبعة، يقوم المدعي العام التمييزي بإبلاغ وزارة الإتصالات وهيئة “أوجيرو” لتقوما بواجبهما “التقني” بغية حجب هذه المواقع أو التطبيقات عن البوابات الدولية للإنترنت في لبنان، فيما يتولى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية متابعة تنفيذ هذا القرار معهما. لكن هذه الآلية لا يبدو انها تسير وفق ما هو مخطط لها، خصوصا اذا ما علمنا أن التجهيزات اللازمة لوقف هذه التطبيقات غير متوافرة في هيئة “اوجيرو”، وفق ما تؤكد مصادر في وزارة الاتصالات التي توضح أن “وقف المواقع الالكترونية متاح وقد تم فعلاً وقف الكثير من المواقع، وخصوصا الاباحية منها بأمر قضائي، ولكننا نواجه مشكلة إيقاف التطبيقات”. وتذكر أنه “بناء على القرارات القضائية تم وقف التطبيقات الاكترونية المتخصصة في الاعلان عن سعر صرف الدولار الاميركي مقابل الليرة لفترة يومين فقط، ومن ثم اعيد تفعيلها بعدما اكتشفنا أن هذه العملية أثرت على نظام الـ Google Play بكامله. لذا لا بد من وجود تجهيزات DPI يمكننا من خلالها تحديد الـ IP ADRESS لوقف التطبيقات المطلوبة دون غيرها من التطبيقات عبر الـ Google Play”. ماذا عن مقدمي الخدمات (ISP)، ألا يمكنهم تعطيلها؟ تؤكد المصادر أن هؤلاء شأنهم شأن “أوجيرو” لا يمكنهم ايقاف التطبيقات لعدم وجود التجهيزات اللازمة.
وفيما تقدِّر المصادر أسعار هذه التجهيزات بنحو 20 مليون دولار، إلا انها تقول إنه “على رغم ذلك كنا ننوي شراءها، إلا أن ما حصل بعد تشرين 2019 أطاح كل مخططات وزارة الاتصالات وأوجيرو في هذا الشأن”.
فما هو نظام “التدقيق المعمق في حزمات المعطيات” أو ما يُعرف بـ Deep packet inspection؟ وفق مصادر خبيرة في قطاع الاتصالات، فإن هذا النظام معتمد لمراقبة واعتراض مضمون المعلومات المتبادلة على شبكات نقل المعلومات وشبكات الإنترنت، سواء عبر التطبيقات العاملة على الشبكات الخليوية أو الشبكات الثابتة، أو عبر المواقع المختلفة المرتبطة بشبكة الانترنت العالمية. ووفق ما يؤكدون فإن “هذه التجهيزات التقنية والبرمجيات التابعة لها لديها إمكانية استخدام وتنفيذ نظام الـ DPI، وموجودة في شبكات الإتصالات اللبنانية، سواء في معاقد الانترنت ونقل المعلومات العائدة لشركات الخليوي، أو في البوابات الدولية للإنترنت لدى أوجيرو. كما أن معاقد الانترنت العائدة لشركات توزيع الانترنت مجهزة بإمكان استخدام هذا النظام. وسبق للأجهزة الأمنية المختصة أن افادت من هذه الإمكانات”.
بدأت خدمات الانترنت في لبنان في العام 1996، وبدأ استخدام التطبيقات الذكية من المشتركين على الشبكة الهاتفية الثابتة منذ ذلك التاريخ، فيما بدأ استخدام التطبيقات الذكية على الهواتف الجوالة على الشبكات الخليوية منذ عام 2005، أي قبل نحو 15 سنة. والسؤال: “كيف كان يجري توقيف استخدام التطبيقات الإرهابية أو الجنسية أو الأخرى المخالفة للقوانين طوال هذه الفترة؟ ألم يكن هناك تجهيزات DPI؟ ألم يكن هناك حاجة طوال هذه الفترة لمثل هذه التجهيزات؟”.
واستغربت المصادر ما أوردته مصادر وزارة الاتصالات عن استحالة حجب هذه التطبيقات من دون ان تتأثر بقية التطبيقات و”غوغل بلاي” عموما، وتسأل: ما هو شكل هذا التأثير وأوجهه؟ وهل شعر مشتركو الانترنت في لبنان بهذا التأثير؟ وهل طاول هذا التأثير كل مشتركي الانترنت على الشبكتين الخليويتين وشبكة الهاتف الثابت؟
ومن الاسئلة البديهية المطروحة ايضا: “كيف تتمكن الأجهزة الأمنية (وخصوصا شعبة المعلومات والأمن العام) من معرفة مضمون “حزم المعطيات” لجميع التطبيقات؟ وكيف تستطيع هذه الأجهزة معرفة مستخدمي التطبيقات الإرهابية وغيرها؟ وكيف تستطيع استخدام تقنيات وتجهيزات وبروتوكولات الـ DPI؟”.
وفيما التخوف من أن يكون ثمة محاولة جديدة للسمسرة لشراء تجهيزات جديدة بالتراضي من احدى الشركات المحظية دائما في قطاع الاتصالات، تشكك المصادر عينها في أن يكون “ثمة جهات سياسية أو مالية لا تريد إقفال هذه التطبيقات، بل تريد الإبقاء عليها بغية الاستمرار في التلاعب بسعر الدولار، واستعمال ذلك بالضغط على الأسواق والناس وتوظيفها في السياسة. وكل ما قيل ويقال هي ذرائع للاستمرار بديمومة الإبقاء على هذه التطبيقات”.
التطبيقات ضرورية!
وإذا كان ثمة إجماع على ضرورة حجب هذه التطبيقات، يعارض الخبير الاقتصادي باتريك مارديني حجبها في ظل غياب شفافية التسعير. وبرأيه ان
“التطبيقات هي بمثابة مؤشر بديل ليكون المواطن على بيّنة من كل ما يحصل في سعر سوق الصرف وحقيقة الاسعار”، مشيرا الى ان “الغش سيزداد في حال قمعت الدولة هذه التطبيقات”. وأكثر، فإن مارديني مع ان يُسمح بتداول الدولار على السعر الحقيقي، اي وفق السوق السوداء، على اعتبار أنه “كلما خنقنا السوق الشرعية، نكون قد وضعنا المواطن تحت رحمة السوق غير الشرعية”.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار